فصل: كسر آلات اللهو والصّلبان وظروف الخمر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


كَتِف

التعريف

1 - الكَتِف والكِتْف في اللّغة‏:‏ عظم عريض خلف المنكب، ويؤنّث وهي تكون للإنسان، وغيره، وفي الحديث‏:‏ «ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً»، كانوا يكتبون فيها لقلة القراطيس عندهم‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

ما يتعلق بالكتف من أحكام

2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجري القصاص في قطع اليد من مفصل الكتف بشرط أن يؤمن من حدوث جائفة في الجسم، فإن خيف جائفة فللمجنيّ عليه أن يقتص من مرفقه، وهو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة ‏;‏ لأنّه أخذ ما أمكن من حقّه، وله أن يأخذ العوض‏.‏ ولا يجب في كسرها قصاص كسائر العظام، وليس فيها أرش مقدر، وإنّما تجب في كسرها حكومة، ‏(‏ر‏:‏ حكومة عدل ف / 7، وجناية على ما دون النفس ف / 31‏)‏‏.‏

وقد ذكر الفقهاء أحكاماً أخرى تتعلق بالكتف منها‏:‏ السدل في الصلاة، وهو عند الحنابلة أن يطرح المصلّي ثوباً على كتفه ولا يردّ أحد طرفيه على الكتف الأخرى، وهو مكروه عندهم‏.‏

ونص الحنابلة على وجوب أن يضع المصلّي على أحد كتفيه شيئاً من اللّباس إن كان قادراً على ذلك ويشترط ذلك لصحة الصلاة في ظاهر المذهب‏.‏

‏(‏ر‏:‏ صلاة ف / 85‏)‏‏.‏

ومنها الاضطباع في الطواف وهو أن يدخل المحرم رداءه الذي يلبسه تحت منكبه الأيمن فيلقيه على عاتقه الأيسر وتبقى كتفه اليمنى مكشوفةً، وهو مستحبّ عند جمهور الفقهاء في طواف القدوم ‏(‏ر‏:‏ اضطباع ف 1 - 4‏)‏‏.‏

كِتْمان

انظر‏:‏ إفشاء السّرّ‏.‏

كُحْل

انظر‏:‏ اكتحال‏.‏

كَدِك

التعريف

1 - لم يرد ذكر كلمة الكدك أو الجدك في كتب اللّغة المشهورة‏.‏

وعند الفقهاء يطلق الكدك على ما يثبت في الحانوت على وجه القرار مما لا ينقل ولا يحول، كالبناء والرّفوف المركبة والأغلاق ونحو ذلك، وهذا ما يسمّيه الفقهاء سكنى‏.‏

كما يطلق على ما يوضع في الحانوت متصلاً لا على وجه القرار، كالخشب الذي يركب بالحانوت لوضع عدة الحلاق مثلاً، فإنّ الاتّصال وجد لكن لا على وجه القرار‏.‏

ويطلق أيضاً على العين غير المتصلة أصلاً، كالبكارج والفناجين بالنّسبة للقهوة، والفوط بالنّسبة للحمام‏.‏

ويطلق على مجرد المنفعة المقابلة للدراهم، وهذا ما يعبّر عنه الفقهاء بالخلوّ‏.‏

وللتفصيل في أحكام الكدك بهذا المعنى ينظر ‏(‏خلوّ‏)‏‏.‏

قال محمد قدري باشا‏:‏ يطلق الكدك على الأعيان المملوكة للمستأجر المتصلة بالحانوت على وجه القرار، كالبناء، أو لا على وجه القرار، كآلات الصّناعة المركبة به، ويطلق أيضاً على الكردار في الأراضي، كالبناء والغراس فيها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الكردار‏:‏

2 - الكردار هو أن يحدث المزارع والمستأجر في الأرض بناء أو غرأساً أو كبساً بالتّراب بإذن الواقف أو بإذن الناظر‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ ومن الكردار ما يسمى الآن كدكا في حوانيت الوقف ونحوها، من رفوف مركبة في الحانوت، وأغلاق على وجه القرار، ومنه ما يسمى قيمةً في البساتين وفي الحمامات، فالكردار أعمّ من الكدك‏.‏

ب - المرصد‏:‏

3 - المرصد هو أن يستأجر رجل عقار الوقف من دار أو حانوت مثلاً ويأذن له المتولّي بعمارته أو مرمته بها، فيعمّره المستأجر من ماله على قصد الرّجوع بذلك في مال الوقف عند حصوله، أو اقتطاعه من الأجرة‏.‏

والمرصد بهذه الصّفة دين مستقرّ على جهة الوقف للمستأجر الذي عمر من ماله عمارةً ضروريةً في مستغلّ من مستغلات الوقف للوقف‏.‏

والفرق بين الكدك وبين المرصد، أنّ صاحب المرصد ليس له إلا دين معلوم على الوقف، فلا يجوز له أن يبيعه ولا يبيع البناء الذي بناه للوقف، وإنّما له مطالبة المتولّي بالدين الذي له إن لم يرد استقطاعه من أصل أجر المثل، وأما الكدك، فهو أموال متقومة مملوكة للمستأجر تباع وتورث، ولأصحابها حقّ القرار‏.‏

ج - المسكة‏:‏

4 - المسكة هي عبارة عن استحقاق الحراثة في أرض الغير، مأخوذة من المسكة لغةً، وهي ما يتمسك به، فكان المتسلّم للأرض المأذون له من صاحبها في الحرث صار له مسكة يتمسك بها في الحرث فيها، وحكمها أنّها لا تقوم، فلا تملك ولا تباع ولا تورث، وقد جرى في عرف الفلاحين إطلاق الفلاحة على المسكة، فيقول أحدهم‏:‏ فرغت عن فلاحتي أو مسكتي أو مشدّي، ويريد معنىً واحداً وهي استحقاق الحرث‏.‏

والمسكة بهذا المعنى تكون في الأراضي الجرداء، وقد تكون في البساتين وتسمى بالقيمة‏.‏ والصّلة بين الكدك وبين المسكة، أنّ صاحب المسكة يثبت له حقّ الاستمساك بالأرض، كما أنّ صاحب الكدك يثبت له حقّ القرار في الحانوت، فالمسكة خاصة بالأراضي أما الكدك فخاصّ بالحوانيت‏.‏

د - الخلوّ‏:‏

5 - يطلق الخلوّ على معان منها‏:‏

أنّه اسم للمنفعة التي جعل في مقابلتها الدراهم، ويطلق كذلك على حقّ مستأجر الأرض الأميرية في التمسّك بها إن كان له فيها أثر من غراس أو بناء أو كبس بالتّراب، على أن يؤدّي ما عليها من الحقوق لبيت المال، كما يطلق على البناء والغرس ونحوهما الذي يقيّمه من بيده عقار وقف أو أرض أميرية ‏(‏ر‏:‏ خلوّ ف / 1‏)‏‏.‏

والصّلة بين الخلوّ بالمعنى الأول والكدك، أنّ صاحب الخلوّ يملك جزءاً من منفعة الوقف ولا يملك الأعيان، أما الكدك فهو أعيان مملوكة لمستأجر الحانوت‏.‏

‏(‏ر‏:‏ خلوّ ف / 1‏)‏‏.‏

وأما الصّلة بالمعنيين الثاني والثالث، فهي أنّ الخلو مرادف للكدك‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالكدك

ثبوت حقّ القرار لصاحب الكدك

أولاً‏:‏ وضع الكدك في المباني الوقفية المؤجرة

6 - يثبت لصاحب الكدك حقّ القرار بسبب ما ينشئه في مبنى الوقف من بناء أو نحوه متصل اتّصال قرار‏.‏

قال ابن عابدين في تنقيح الفتاوى الحامدية‏:‏ يثبت له ‏"‏ أي لصاحب الكدك ‏"‏ حقّ القرار ما دام يدفع أجرة مثل الحانوت خاليةً عن جدكه وقال في موضع آخر‏:‏ إذا كان هذا الجدك المسمى بالسّكنى قائماً في أرض وقف، فهو من قبيل مسألة البناء أو الغرس في الأرض المحتكرة، لصاحبه الاستبقاء بأجرة مثل الأرض حيث لا ضرر على الوقف وإن أبى الناظر، نظرا للجانبين‏.‏

وجاء في المادة ‏(‏707‏)‏ من مرشد الحيران‏:‏ الكدك المتصل بالأرض بناء أو غرأساً أو تركيباً على وجه القرار هو أموال متقومة تباع وتورث، ولأصحابها حقّ القرار، ولهم استبقاؤها بأجر المثل‏.‏

هذا هو مذهب الحنفية، وبه يقول المالكية، فقد قال الشيخ عليش‏:‏ الخلوّ من المنفعة، فلذلك يورث، وليس للناظر أن يخرجها عنه وإن كانت الإجارة مشاهرةً، ولا الإجارة لغيره‏.‏ كما قال الشيخ عليش‏:‏ الخلوّ ربما يقاس عليه الجدك المتعارف في حوانيت مصر‏.‏‏.‏‏.‏ نعم بعض الجدكات بناء أو إصلاح أخشاب في الحانوت مثلاً بإذن، وهذا قياسه على الخلوّ ظاهر، خصوصاً وقد استندوا في تأبيد الحكر للعرف، والعرف حاصل في الجدك‏.‏

وقال الدّسوقيّ‏:‏ إذا استأجر إنسان داراً موقوفةً مدةً معينةً، وأذن له الناظر بالبناء فيها ليكون له خلوّاً، وجعل عليها حكراً كل سنة لجهة الوقف، فليس للناظر أن يؤاجرها لغير مستأجرها مدةً تلي مدة إيجار الأول، لجريان العرف بأن لا يستأجرها إلا الأول، والعرف كالشرط، فكانه اشترط عليه ذلك في صلب العقد، ومحلّه إذا دفع الأول من الأجرة ما يدفعه غيره، وإلا جاز إيجارها للغير‏.‏

ومستند هؤلاء الفقهاء في إثبات حقّ القرار لصاحب الكدك هو المصلحة، قال ابن عابدين ومثل ذلك أصحاب الكردار في البساتين ونحوها، وكذا أصحاب الكدك في الحوانيت ونحوها، فإنّ إبقاءها في أيديهم سبب لعمارتها ودوام استغلالها، ففي ذلك نفع للأوقاف وبيت المال، ولكن كلّ ذلك بعد كونهم يؤدون أجرة مثلها بلا نقصان فاحش‏.‏

وقال البنانيّ‏:‏ وقعت الفتوى من شيوخ فاس من المتأخّرين، كالشيخ القصار، وابن عاشر، وأبي زيد الفاسيّ، وسيّدي عبد القادر الفاسيّ، وأضرابهم، ويعبّرون عن الخلوّ المذكور بالجلسة جرى بها العرف، لما رأوه من المصلحة فيها، فهي عندهم كراء على التبقية‏.‏

7- ويشترط لثبوت حقّ القرار لصاحب الكدك عند هؤلاء الفقهاء ما يلي‏:‏

أ - إذن الناظر للمستأجر في وضع كدكه أو كرداره، فإن وضعه دون إذن فلا عبرة به، ولا يجب تجديد الإجارة له‏.‏

قال الخير الرمليّ‏:‏ صرح علماؤنا بأنّ لصاحب الكردار حق القرار، وهو أن يحدث المزارع والمستأجر في الأرض بناء، أو غرأساً، أو كبساً بالتّراب، بإذن الواقف، أو بإذن الناظر، فتبقى في يده‏.‏

قال الحصكفيّ نقلاً عن مؤيد زاده‏:‏ حانوت وقف بنى فيه ساكنه بلا إذن متولّيه، إن لم يضر رفعه رفعه، وإن ضر فهو المضيّع ماله، فليتربص إلى أن يتخلص ماله من البناء ثم يأخذه، ولا يكون بناؤه مانعًا من صحة الإجارة لغيره، إذ لا يد له على ذلك البناء، حيث لا يملك رفعه‏.‏

ب - دفع أجرة المثل منعًا للضرر عن الوقف، إذ لا يصحّ إيجار الوقف بأقل من أجرة المثل إلا عن ضرورة‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ يثبت له بذلك ‏"‏ الكدك ‏"‏ حقّ القرار ما دام يدفع أجرة مثل الحانوت خاليةً عن كدكه‏.‏

وقال في موضع آخر عند الكلام عن الفرق بين التصرّف في المملوك والتصرّف في الموقوف‏:‏ أما الموقوف المعدّ للإيجار، فإنّه ليس للناظر إلا أن يؤجّره، فإيجاره من ذي اليد بأجرة مثله أولى من إيجاره من أجنبيّ ‏;‏ لما فيه من النظر للوقف ولذي اليد، والمراد بأجرة المثل أن ينظر بكم يستأجر إذا كان خالياً عن ذلك الجدك بلا زيادة ضرر ولا زيادة رغبة من شخص خاصّ، بل العبرة بالأجرة التي يرضاها الأكثر‏.‏

فلو زاد أجر المثل بعد العقد زيادةً فاحشةً، فالأصحّ عند الحنفية أنّه يجب تجديد العقد بالأجرة الزائدة، وقبول المستأجر الزّيادة يكفي عن تجديد العقد، والمراد زيادة أجر مثل الوقف في نفسه عند الكلّ بلا زيادة أحد، وليس المراد زيادة تعنّت أي إضرار من واحد أو اثنين، فإنّها غير مقبولة، ولا الزّيادة بعمارة المستأجر بماله لنفسه‏.‏

ج - عدم الضرر، قال ابن عابدين نقلاً عن القنية‏:‏ استأجر أرضاً وقفًا وغرس فيها وبنى ثم مضت مدة الإجارة، فللمستأجر أن يستبقيها بأجر المثل إذا لم يكن في ذلك ضرر‏.‏

وقال ابن عابدين نقلاً عن الخير الرمليّ‏:‏ لو حصل ضرر ما، بأن كان هو أو وارثه مفلساً أو سيّئ المعاملة أو متغلّباً يخشى على الوقف منه أو غير ذلك من أنواع الضرر، لا يجبر الموقوف عليهم‏.‏ ا‏.‏ هـ‏.‏ وأضاف‏:‏ ويؤيّده ما في الإسعاف وغيره، من أنّه لو تبين أنّ المستأجر يخاف منه على رقبة الوقف يفسخ القاضي الإجارة ويخرجه من يده‏.‏

وقال العلامة قنالي زاده‏:‏ يجب على كلّ قاض عادل عالم، وعلى كلّ قيّم أمين غير ظالم، أن ينظر في الأوقاف، فإن كان بحيث لو رفع البناء والغرس تستأجر بأكثر، أن يفسخ الإجارة، ويرفع بناءه وغرسه، أو يقبلها بهذه الأجرة، وقلما يضرّ الرفع بالأرض‏.‏

وفي أوقاف الخصاف‏:‏ حانوت أصله وقف، وعمارته لرجل، وهو لا يرضى أن يستأجر أرضه بأجر المثل، قالوا‏:‏ إن كانت العمارة بحيث لو رفعت يستأجر الأصل بأكثر مما يستأجر صاحب البناء كلّف رفعه، ويؤجر من غيره، وإلا يترك في يده بذلك الأجر‏.‏

ثانياً‏:‏ وضع الكدك في الأملاك الخاصة

8 - يرى الحنفية أنّه إذا كان الكدك المسمى بالسّكنى قائماً في أرض وقف، فلصاحبه استبقاؤه بأجر المثل، أما إذا كان الكدك في الحانوت الملك، فلصاحب الحانوت أن يكلّف المستأجر برفع الكدك لأنّ الإجارة تنتهي بمضيّ المدة، ولا يبقى لها أثر إجماعاً‏.‏

والفرق - كما قال ابن عابدين - أنّ الملك قد يمتنع صاحبه عن إيجاره ويريد أن يسكنه بنفسه، أو يبيعه أو يعطّله، بخلاف الموقوف المعدّ للإيجار، فإنّه ليس للناظر إلا أن يؤجّره، فإيجاره من ذي اليد بأجرة مثله أولى من إيجاره من أجنبيّ، لما فيه من النظر للوقف ولذي اليد‏.‏

قال خير الدّين الرمليّ‏:‏ إذا استأجر أرضاً ملكاً ليس للمستأجر أن يستبقيها كذلك إن أبى المالك إلا القلع، بل يكلّفه على ذلك، إلا إذا كانت قيمة الأغراس أكثر من قيمة الأرض فإذن لا يكلّفه عليه بل يضمن المستأجر قيمة الأرض للمالك، فتكون الأغراس والأرض للغارس، وفي العكس يضمن المالك للغارس قيمة الأغراس فتكون الأرض والأشجار له، وكذا الحكم في العارية‏.‏

قال الأتاسيّ بعد نقل هذا القول‏:‏ الظاهر أنّ هذا إذا كان المستأجر بنى أو غرس بإذن المالك‏;‏ لأنّه يكون غير متعدّ بالبناء والغرس‏.‏‏.‏‏.‏ وأما إذا كان البناء أو الغرس بدون إذن مالك الأرض، فليس إلا القلع أو تخيير المالك بين تكليفه به أو تملّكه بقيمته مستحق القلع، إن كان القلع يضرّ بالأرض ‏;‏ لأنّه متعدّ بالبناء والغرس‏.‏

أما وضع الكدك المتصل اتّصال قرار قصداً بتعاقد بين المستأجر وصاحب الحانوت، فإنّه يثبت حق القرار للمستأجر عند بعض متأخّري الحنفية، فلا يملك صاحب الحانوت إخراج المستأجر منه ولا إجارته لغيره‏.‏

وكذلك الحكم عند المالكية فقد قال عليش‏:‏ إنّ الخلو ربما يقاس عليه الجدك المتعارف في حوانيت مصر، فإن قال قائل‏:‏ الخلوّ إنّما هو في الوقف لمصلحة وهذا يكون في الملك، قيل له‏:‏ إذا صح في وقف فالملك أولى لأنّ المالك يفعل في ملكه ما يشاء، نعم بعض الجدكات بناء أو إصلاح أخشاب في الحانوت مثلاً بإذن وهذا قياسه على الخلوّ ظاهر، خصوصاً وقد استندوا في تأبيد الحكر للعرف، والعرف حاصل في الجدك، وبعض الجدكات أمور مستقلة في المكان غير مستمرة فيه، كما يقع في الحمامات وحوانيت القهوة بمصر، فهذه بعيدة الخلوات، فالظاهر أنّ للمالك إخراجها‏.‏

ولم يستدل على نص للشافعية والحنابلة بخصوص إقامة المستأجر الجدك في الحانوت الملك، ويفهم مما ذكروه في استئجار الأرض للبناء أو الغراس، أنّ البناء والغراس ملك للمستأجر، والأرض ملك لصاحبها‏.‏

قال ابن رجب‏:‏ غراس المستأجر وبناؤه بعد انقضاء المدة إذا لم يقلعه المالك فللمؤجّر تملّكه بالقيمة لأنّه لا يملك قلعه بدون ضمان نقصه، وفيه ضرر عليه‏.‏

وقال النّوويّ‏:‏ استأجر للبناء أو الغراس، فإن شرط القلع صح العقد ولزم المستأجر القلع بعد المدة، وليس على المالك أرش النّقصان، ولا على المستأجر تسوية الأرض، ولا أرش نقصها، لتراضيهما بالقلع، ولو شرطا الإبقاء بعد المدة، فوجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ العقد فاسد لجهالة المدة، وهذا أصحّ عند الإمام والبغويّ، والثاني‏:‏ يصحّ ‏;‏ لأنّ الإطلاق يقتضي الإبقاء، فلا يضرّ شرطه، وبهذا قطع العراقيّون أو جمهورهم، ويتأيد به كلام السرخسيّ في مسألة الزرع، فإن قلنا بالفساد، لزم المستأجر أجرة المثل للمدة‏.‏‏.‏‏.‏ أما إذا أطلقا، فالمذهب صحة العقد، وقيل‏:‏ وجهان، وليس بشيء، ثم ينظر بعد المدة، فإن أمكن القلع والرفع بلا نقص فعل، وإلا، فإن اختار المستأجر القلع فله ذلك ‏;‏ لأنّه ملكه‏.‏‏.‏‏.‏ وإن لم يختر القلع، فهل للمؤجّر أن يقلعه مجاناً‏؟‏ فيه طريقان‏:‏ أحدهما القطع بالمنع، والثاني على وجهين أصحّهما هذا ‏;‏ لأنّه بناء محترم، والثاني‏:‏ نعم‏.‏‏.‏‏.‏، وإذا انتهى الأمر إلى القلع، فمباشرة القلع، أو بدل مئونته هل هي على المؤجّر لأنّه الذي اختاره، أم على المستأجر لأنّه شغل الأرض فليفرغها‏؟‏ وجهان‏:‏ أصحّهما الثاني‏.‏

وقف الكدك

9 - صرح الحنفية بعدم جواز وقف الكدك، قال ابن عابدين‏:‏ ما يسمى الآن كدكًا في حوانيت الوقف ونحوها، من رفوف مركبة في الحانوت، وأغلاق على وجه القرار، فالظاهر أنّه لا يصحّ وقفه، لعدم العرف الشائع، بخلاف وقف البناء والشجر، فإنّه مما شاع وذاع في عامة البقاع‏.‏

ويؤخذ من عبارات المالكية صحة وقف الكدك الذي يقيمه المستأجر في الحانوت‏.‏

قال الغرقاويّ المالكيّ‏:‏ إنّ الذي عليه العمل ما أفتى به شهاب الدّين أحمد السنهوريّ من صحة وقف الخلوّ وجرى به العمل كثيراً في الدّيار المصرية‏.‏

وصرح عليش بأنّ الخلو ربما يقاس عليه الجدك المتعارف في حوانيت مصر‏.‏

ولم نجد نصاً للشافعية والحنابلة بخصوص وقف الكدك، إلا أنّهم يجيزون وقف الغراس والبناء، وهذا ليس محل خلاف بين الفقهاء‏.‏

بيع الكدك

10 - إذا ثبت للمستأجر حقّ القرار في حانوت الوقف، فالكدك الذي يضعه فيه يكون ملكاً له على وجه القرار، ويكون لهذا المستأجر بيع ما وضعه، وينتقل حقّ القرار للمشتري فقد قال المهديّ العباسيّ‏:‏ فإن أحدث شيئاً من ذلك بعد إذن الناظر على هذا الوجه، فحينئذ لا حاجة إلى تكلّف الإسقاط في أثناء مدة إجارته أو بعدها، ولا إلى استئجار الأجنبيّ من الناظر، بل يكون للمستأجر المذكور بيع ما أحدثه من الأجنبيّ، فينتقل حقّ القرار للمشتري، ويكون على المشتري المذكور أجر مثل الأرض خاليةً عما أحدث فيها‏.‏

وجاء في مرشد الحيران‏:‏ الكدك المتصل بالأرض بناء وغرأساً أو تركيباً على وجه القرار هو أموال متقومة، تباع وتورث، ولأصحابها حقّ القرار، ولهم استبقاؤها بأجر المثل‏.‏ هذا عند الحنفية والمالكية أيضاً إذ إنّ المالكية يقيسون الجدك المتصل اتّصال قرار على الخلوّ، قال عليش‏:‏ بعض الجدكات بناء أو إصلاح أخشاب في الحانوت مثلاً بإذن وهذا قياسه على الخلوّ ظاهر‏.‏

والخلوّ يصير كالملك يجري عليه البيع والإجارة والهبة والرهن ووفاء الدين والإرث‏.‏

الشّفعة في الكدك

11 - لا تثبت الشّفعة عند الحنفية والشافعية في بيع البناء بدون الأرض إلا أنّه ذكر السيّد محمد أبو السّعود الحنفيّ في حاشيته على الأشباه‏:‏ لو كان الخلوّ بناء أو غرأساً بالأرض المحتكرة أو المملوكة يجري فيه حقّ الشّفعة ‏;‏ لأنّه لما اتصل بالأرض اتّصال قرار التحق بالعقار، وتعقبه ابن عابدين بقوله‏:‏ ما ذكره ‏"‏ السيّد محمد أبو السّعود ‏"‏ من جريان الشّفعة فيه سهو ظاهر، لمخالفته المنصوص عليه في كتب المذهب‏.‏

وعند المالكية يكون لمن اشترك في البناء في أرض الوقف المحتكرة الأخذ بالشّفعة، قال العدويّ عند بيان صور الخلوّ‏:‏ أن تكون أرض محبسة فيستأجرها من الناظر ويبني فيها داراً مثلاً على أنّ عليه في كلّ شهر لجهة الوقف ثلاثين نصفاً فضةً، ولكنّ الدار تكرى بستّين نصف فضة مثلاً، فالمنفعة التي تقابل الثلاثين الأخرى يقال لها خلوّ، وإذا اشترك في البناء المذكور جماعة وأراد بعضهم بيع حصته في الباء، فلشركائه الأخذ بالشّفعة‏.‏

كَذِب

التعريف

1 - الكذب لغةً‏:‏ الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، سواء فيه العمد والخطأ‏.‏

ولا يخرج اصطلاح الفقهاء عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التزوير‏:‏

2 - التزوير في اللّغة‏:‏ تزيين الكذب، وزورت الكلام في نفسي‏:‏ هيأته‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنّه بخلاف ما هو عليه في الحقيقة، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنّه حقّ‏.‏

وبين الكذب والتزوير عموم وخصوص وجهيّ، فالتزوير يكون في القول والفعل، والكذب لا يكون إلا في القول‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ تزوير ف / 1‏)‏‏.‏

والكذب قد يكون مُزيناً أو غير مزين، والتزوير لا يكون إلا في الكذب المموه‏.‏

ب - الافتراء‏:‏

3 - الافتراء في اللّغة والاصطلاح‏:‏ الكذب والاختلاق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ‏}‏ أي اختلقه وكذب به على الله‏.‏

والصّلة بين الكذب والافتراء عموم وخصوص مطلق، فإنّ الكذب قد يقع على سبيل الإفساد، وقد يكون على سبيل الإصلاح، كالكذب للإصلاح بين المتخاصمين، أما الافتراء فإنّ استعماله لا يكون إلا في الإفساد ‏(‏ر‏:‏ افتراء ف / 1‏)‏‏.‏

الحكم التكليفيّ

4 - الأصل في الكذب أنّه حرام بالكتاب والسّنّة وإجماع الأمة، وهو من أقبح الذّنوب وفواحش العيوب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

وروى ابن مسعود أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البر يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرجل ليصدق حتى يكون صدّيقاً، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً»‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «كبرت خيانةً أن تحدّث أخاك حديثاً هو لك به مصدّق وأنت له به كاذب»‏.‏

وإجماع الأمة منعقد على تحريمه مع النّصوص المتظاهرة على ذلك‏.‏

5- وقد يكون الكذب مباحاً أو واجباً، فالكلام وسيلة إلى المقاصد، وكلّ مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب فيه، ثم إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً كان الكذب مباحاً وإن كان واجباً كان الكذب واجباً، كما أنّ عصمة دم المسلم واجبة، فإذا كان في الصّدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب، ومحلّ الوجوب ما لم يخش التبين ويعلم أنّه يترتب عليه ضرر شديد لا يحتمل‏.‏

وإذا كان لا يتمّ مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجنيّ عليه إلا بكذب فالكذب فيه مباح، إلا أنّه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن ‏;‏ لأنّه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حدّ الضرورة، فيكون الكذب حراماً إلا لضرورة، والذي يدلّ على هذا الاستثناء ما ورد عن أمّ كلثوم رضي الله عنها‏:‏ أنّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً»، وورد عنها‏:‏ «لم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث‏:‏ الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها»، فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له أو لغيره‏.‏

فأما ما هو صحيح له فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله فله أن ينكره، أو يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها فله أن ينكر ذلك، فيقول ما زنيت، ما سرقت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها، فمن ألم فليستتر بستر الله وليتب إلى الله فإنّه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله عز وجل»، وذلك أنّ إظهار الفاحشة فاحشة أخرى، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلماً وعرضه بلسانه وإن كان كاذباً‏.‏

وأما عرض غيره فبأن يُسأل عن سرّ أخيه فله أن ينكره، ونحو ذلك، ولكنّ الحد فيه أنّ الكذب محذور، ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور، فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر، ويزن بالميزان القسط، فإذا علم أنّ المحذور الذي يحصل بالصّدق أشدّ وقعاً في الشرع من الكذب فله أن يكذب، وإن كان المقصود أهون من مقصود الصّدق فيجب الصّدق، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما، وعند ذلك الميل إلى الصّدق أولى ‏;‏ لأنّ الكذب يباح لضرورة أو حاجة مهمة، فإن شك في كون الحاجة مهمةً، فالأصل التحريم، فيرجع إليه‏.‏ ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد وينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه، وكذلك مهما كانت الحاجة له فيستحبّ له أن يترك أغراضه ويهجر الكذب، فأما إذا تعلق الغرض بغيره فلا تجوز المسامحة لحقّ الغير والإضرار به‏.‏

وقالت طائفة من العلماء‏:‏ لا يجوز الكذب في شيء مطلقاً، وحملوا الكذب المراد في حديث أمّ كلثوم بنت عقبة على التورية والتعريض، كمن يقول للظالم دعوت لك أمس، وهو يريد قوله‏:‏ اللهم اغفر للمسلمين، ويعد امرأته بعطية شيء، ويريد إن قدر الله ذلك‏.‏

واتفقوا على أنّ المراد بالكذب في حقّ المرأة والرجل إنّما هو فيما لا يسقط حقّاً عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها‏.‏

تغليظ الكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم

6 - الكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم من الكبائر التي لا يقاومها شيء، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كذباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ‏}‏، وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ‏}‏ وعن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»‏.‏

قال ابن حجر‏:‏ عدّ هذين كبيرتين هو ما صرحوا به وهو ظاهر، بل قال أبو محمد الجوينيّ‏:‏ إنّ الكذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم كفر، وقال بعض المتأخّرين‏:‏ وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أنّ الكذب على الله ورسوله كفر يخرج عن الملة ولا ريب أنّ تعمّد الكذب على الله ورسوله في تحليل حرام أو تحريم حلال كفر محض، وإنّما الكلام في الكذب عليهما فيما سوى ذلك‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ وكما يحرم تعمّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه يحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعاً، أو غلب على ظنّه وضعه ولم يبيّن حال رواته ووضعه، فهو داخل في هذا الوعيد مندرج في جملة الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من حدث عنّي بحديث يرى أنّه كذب فهو أحد الكاذبين»‏.‏

ولهذا قال العلماء‏:‏ ينبغي لمن أراد رواية الحديث أو ذكره أن ينظر فإن كان صحيحاً أو حسناً قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعله، أو نحو ذلك من صيغ الجزم، وإن كان ضعيفاً فلا يقل‏:‏ قال أو فعل أو أمر أو نهى وشبه ذلك من صيغ الجزم، بل يقول‏:‏ روي عنه كذا أو جاء عنه كذا أو يروى أو يذكر أو يحكى أو يقال أو بلغنا وما أشبهه‏.‏ والله أعلم‏.‏

اليمين الكاذبة

7 - اليمين الكاذبة وتسمى الغموس وهي التي يحلفها الإنسان عامداً عالماً أنّ الأمر بخلاف ما حلف عليه ليحق بها باطلاً أو يبطل حقّاً‏.‏

وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح ‏(‏أيمان ف / 102 - 114‏)‏‏.‏

شهادة الزّور

8 - شهادة الزّور‏:‏ هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏شهادة الزّور ف / 1 - 2‏)‏‏.‏

الكذب في المزاح

9 - الكذب في المزاح حرام كالكذب في غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب من المزاحة، ويترك المراء وإن كان صادقاً»، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّي لأمزح ولا أقول إلا حقّاً»‏.‏

الكذب في ملاعبة الصّبيان

10 - ينبغي الحذر من الكذب في ملاعبة الصّبيان فإنّه يكتب على صاحبه، وقد حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال‏:‏ «دعتني أمّي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت‏:‏ ها تعال أعطيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما أردت أن تعطيه‏؟‏ قالت‏:‏ أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما إنّك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قال لصبيّ تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة»‏.‏

الكذب في الرّؤيا

11 - حذر الشارع من الكذب في الرّؤيا ونهى عنه، فعن واثلة بن الأسقع قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ من أعظم الفرى أن يدعى الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينه ما لم تر، أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل»، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من تحلم كاذباً كلّف يوم القيامة أن يعقد بين شعرتين ولن يعقد بينهما»‏.‏

قال القرطبيّ‏:‏ إنّما اشتد فيه الوعيد مع أنّ الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدةً منه ‏;‏ إذ قد تكون شهادةً في قتل أو حدّ أو أخذ مال، لأنّ الكذب في المنام كذب على الله أنّه أراه ما لم يره، والكذب على الله أشدّ من الكذب على المخلوقين لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏، وإنّما كان الكذب في المنام كذباً على الله لحديث‏:‏ «الرّؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النّبوة»، وما كان من أجزاء النّبوة فهو من قبل الله تعالى‏.‏

قال القرطبيّ‏:‏ قال علماؤنا‏:‏ إن قيل من كذب في رؤياه ففسرها العابر له أيلزمه حكمها‏؟‏ قلنا‏:‏ لا يلزمه، وإنّما كان ذلك في يوسف عليه السلام عندما قال للساقي‏:‏ إنّك تردّ على عملك الذي كنت عليه من سقي الملك بعد ثلاثة أيام، وقال للآخر وكان خبازاً‏:‏ وأما أنت فتدعى إلى ثلاثة أيام فتصلب فتأكل الطير من رأسك، قال الخباز‏:‏ والله ما رأيت شيئاً، قال‏:‏ رأيت أو لم تر ‏{‏قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ‏}‏‏.‏

لأنّه نبيّ وتعبير النبيّ حكم، وقد قال‏:‏ إنّه يكون كذا وكذا فأوجد الله ما أخبر كما قال تحقيقاً لنبوته‏.‏

من انتسب إلى غير أبيه

12 - إنّ من الكبائر التي حذر منها الشارع لما يترتب عليها من المفاسد وتغيير ما شرع الله تعالى أن ينتسب المرء إلى غير أبيه، أو يدعي ابناً ليس ابنه وهو يعلم أنّه كاذب فيما ادعاه، فعن أبي هريره رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر»، والكفر المذكور في الحديث له تأويلان ذكرهما النّوويّ‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّه في حقّ المستحلّ، والثاني‏:‏ أنّه كفر النّعمة والإحسان وحقّ الله تعالى وحقّ أبيه، وليس المراد الكفر الذي يخرج عن ملة الإسلام‏.‏

وكذلك الحكم لمن ينفي نسب ابنه وهو يعلم كذبه لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «أيّما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنّته، وأيّما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رءوس الأولين والآخرين يوم القيامة»‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏نسب، استلحاق ف / 2‏)‏‏.‏

الكذب في البيع والغشّ فيه

13 - من المنكرات المعتادة في الأسواق الكذب في المرابحة وإخفاء العيب فمن قال‏:‏ اشتريت هذه السّلعة بعشرة وأربح فيها كذا، وكان كاذباً فهو فاسق، وعلى من عرف ذلك أن يخبر المشتري بكذبه، فإن سكت مراعاةً لقلب البائع كان شريكاً له في الإثم وعصى بسكوته‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏غشّ ف / 5‏)‏‏.‏

غشّ الوالي رعيته وكذبه عليهم

14 - غشّ الوالي رعيته وكذبه عليهم من الكبائر، فمن قلده الله شيئاً من أمر المسلمين واسترعاه عليهم ونصبه لمصلحتهم في دينهم ودنياهم، وجب عليه أن ينصح لهم وألا يغشهم، وأن يكون صادقاً معهم، وإلا استحق ما أعده الله له من العذاب الأليم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاثة لا يكلّمهم الله ولا يزكّيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم‏:‏ شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر»، وعن معقل بن يسار قال‏:‏ «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يسترعي الله عبداً رعيةً يموت حين يموت وهو غاشّ لها إلا حرم الله عليه الجنّة»‏.‏

وعنه رضي الله عنه ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنّة»، قال القاضي عياض‏:‏ إذا خان الأمير فيما أؤتمن عليه فلم ينصح فيما قلده إما بتضييعه تعريفهم ما يلزمهم من دينهم، وأخذهم به، وإما بالقيام بما يتعين عليه من حفظ شرائعهم والذبّ عنها لكلّ متصدّ بإدخال داخلة فيها، أو تحريف لمعانيها أو إهمال حدودهم، أو تضييع حقوقهم، أو ترك حماية حوزتهم ومجاهدة عدوّهم أو ترك سيرة العدل فيهم فقد غشهم، وقد نبه صلى الله عليه وسلم أنّ ذلك من الكبائر الموبقة المبعدة عن الجنّة‏.‏ والله أعلم‏.‏

التحدّث بكلّ ما سمع

15 - نهى الشارع أن يحدّث المرء بكلّ ما سمع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكلّ ما سمع»، قال النّوويّ‏:‏ والآثار في هذا الباب كثيرة، وفي هذا الزجر عن التحدّث بكلّ ما سمع الإنسان، فإنّه يسمع في العادة الصّدق والكذب، فإذا حدث بكلّ ما سمع فقد كذب لإخباره بما لم يكن، ومذهب أهل الحقّ أنّ الكذب‏:‏ الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، ولا يشترط فيه التعمّد، لكنّ التعمّد شرط في كونه إثماً‏.‏

الاستغناء عن الكذب بالمعاريض

16 - نقل عن بعض السلف‏:‏ أنّ في المعاريض مندوحةً عن الكذب، قال عمر رضي الله عنه‏:‏ أما في المعاريض ما يكفي الرجل عن الكذب، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، وإنّما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب، فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعاً، ولكنّ التعريض أهون‏.‏

ومثال التعريض‏:‏ ما روي أنّ معاذ بن جبل رضي الله عنه كان عاملاً لعمر رضي الله عنه فلما رجع قالت امرأته‏:‏ ما جئت به مما أتى به العمال إلى أهلهم‏؟‏ وما كان قد أتاها بشيء، فقال‏:‏ كان عندي ضاغط، قالت‏:‏ كنت أميناً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر رضي الله عنه، فبعث عمر معك ضاغطاً‏.‏ وقامت بذلك بين نسائها، واشتكت عمر، فلما بلغه ذلك دعا معاذاً وقال‏:‏ بعثت معك ضاغطاً‏؟‏ قال‏:‏ لم أجد ما أعتذر به إليها إلا ذلك، فضحك عمر رضي الله عنه وأعطاه شيئاً، فقال‏:‏ أرضها به، ومعنى قوله‏:‏ ‏"‏ ضاغطاً ‏"‏ يعني رقيباً، وأراد به الله سبحانه وتعالى‏.‏

وكان النّخعيّ لا يقول لابنته‏:‏ أشتري لك سكراً، بل يقول‏:‏ أرأيت لو اشتريت لك سكراً‏؟‏ فإنّه ربما لا يتفق له ذلك، وكان إبراهيم إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية‏:‏ قولي له‏:‏ اطلبه في المسجد، ولا تقولي‏:‏ ليس هنا كي لا يكون كذباً‏.‏

وهذا كلّه في موضع الحاجة، فأما في غير موضع الحاجة فلا ‏;‏ لأنّ هذا تفهيم للكذب وإن لم يكن اللفظ كذباً فهو مكروه على الجملة، كما روى عبد الله بن عتبة قال‏:‏ دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، فخرجت وعلي ثوب، فجعل الناس يقولون‏:‏ هذا كساكه أمير المؤمنين‏؟‏ فكنت أقول‏:‏ جزى الله أمير المؤمنين خيراً، فقال لي أبي‏:‏ يا بني اتق الكذب وما أشبهه فنهاه عن ذلك ‏;‏ لأنّ فيه تقريراً لهم على ظنّ كاذب لأجل غرض المفاخرة، وهذا غرض باطل لا فائدة فيه‏.‏

وتباح المعاريض لغرض خفيف كتطييب قلب الغير بالمزاح، كما روي عن الحسن قال‏:‏

«أتت عجوز إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لها صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يدخل الجنّة عجوز، فبكت فقال‏:‏ إنّك لست بعجوز يومئذ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً‏}‏»، وقال زيد بن أسلم‏:‏ «إنّ امرأةً يقال لها أمّ أيمن جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إنّ زوجي يدعوك، قال‏:‏ ومن هو‏؟‏ أهو الذي بعينه بياض‏؟‏ قالت‏:‏ والله ما بعينه بياض، فقال‏:‏ بلى، إنّ بعينه بياضاً، فقالت‏:‏ لا والله، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما من أحد إلا وبعينه بياض» وأراد به البياض المحيط بالحدقة‏.‏

وحديث أنس بن مالك‏:‏ «أنّ رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنّي حاملك على ولد الناقة، فقال‏:‏ يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وهل تلد الإبل إلا النّوق‏؟‏، وكان يمزح به»‏.‏

كِراء

انظر‏:‏ إجارة‏.‏

كِراء العَقِب

التعريف

1 - الكراء - بالمدّ - الأجرة، وهو في الأصل مصدر من كاريته من باب قاتل، والفاعل مكار على النقص والجمع مكارون، ومكارين، مثل‏:‏ قاضون وقاضين، وأكريته الدار وغيرها إكراءً فاكتراه بمعنى آجرته فاستأجر، والكريّ على فعيل مكري الدوابّ‏.‏

والعقب في الأصل مجيء الشيء بعقب الشيء الآخر أي متأخّراً عنه، ومنه قولهم في الليل والنهار‏:‏ المتعاقبان، أي يأتي كلّ منهما عقب صاحبه، والعقبة‏:‏ النّوبة والجمع عقب، مثل غرفة وغرف وتعاقبوا على الراحلة ركب كلّ واحد عقبةً‏.‏

وكراء العقب عند الفقهاء‏:‏ أن يؤجّر دابةً لرجلين ليركب هذا أياماً وذا أياماً أخر، أو ليركب هذا مسافةً معلومةً من الطريق وذا مسافةً معلومةً أخرى، وسمّيت هذه الإجارة بهذا الاسم‏;‏ لأنّ كلّاً منهما يعقب صاحبه ويركب موضعه‏.‏

الحكم التكليفيّ

2 - قال جمهور الفقهاء‏:‏ يجوز كراء العقب وله صورتان‏:‏

الأولى‏:‏ أن يؤجّر دابته لرجلين ليركب هذا أياماً وذا أياماً معلومةً بالتناوب، أو ليركب أحدهما مسافةً معلومةً كنصف الطريق أو ربعه مثلاً ويركب الآخر مسافةً معلومةً أخرى ما لم تكن هناك عادة، فإن كانت هناك عادة مضبوطة بزمان أو مسافة اتّبعت‏.‏

والثانية أن يؤجّرها شخصاً ليركبها بعض الطريق مضبوطاً - كما سبق - بزمان أو مسافة معلومتين ويركب المؤجّر البعض الآخر تناوباً مع عدم شرط البداءة بالمؤجّر - كما هو نص الشافعية - سواء أشرطاها للمستأجر أم أطلقا أو قالا ليركب أحدنا، وسواء وردت الإجارة على العين أم في الذّمة، لثبوت الاستحقاق حالاً، والتأخير الواقع من ضرورة القسمة‏.‏

أما إذا اشترطا - في الصّورة الثانية - أن يركبها المؤجّر أولاً فإنّ العقد باطل في إجارة العين ‏;‏ لتأخير حقّ المكتري وتعلّق الإجارة بالمستقبل‏.‏

وإن استأجرا دابةً على أن يركب أحدهما بعض الطريق ويركب الثاني البعض الآخر دون تحديد هذا البعض فإن كانت هناك عادة مضبوطة بزمان مثل أن يركب هذا ليلاً ويمشي نهاراًً، أو يركب الآخر نهاراًً ويمشي ليلاً، أو بمسافة مثل أن يركب أحدهما بفراسخ معلومة ويركب الآخر بفراسخ معلومة أخرى اتّبعت هذه العادة فيقتسمان الرّكوب بالتراضي على الوجه المعتاد أو المبين، فإن تنازعا في الابتداء أقرع بينهما‏.‏

والزمان المحسوب في المناوبة زمن السير دون زمن النّزول حتى لو نزل أحدهما للاستراحة أو لعلف الدابة لم يحسب زمن النّزول ‏;‏ لأنّ نفس الزمان غير مقصود وإنّما المقصود قطع المسافة‏.‏

ولو استأجر اثنان دابةً لا تحملهما معاً حمل الاستئجار على التعاقب ويقتسمان بالزمان أو المسافة فإن تنازعا في البداءة أقرع بينهما‏.‏

وإن كانت تحملهما معاً ركباها جميعاً‏.‏

ولو استأجر دابةً ليركبها بعض الطريق متوالياً صح، وكذا لو أطلق، أو استأجر نصف الدابة إلى موضع كذا صحت الإجارة مشاعةً كبيع المشاع ويأخذ حصته بالزمان أو المسافة كما سبق فإن تنازعا في البداءة أقرع بينهما كما مر‏.‏

وإن اتفقا على أن يركب يوماً ويمشي يوماً جاز، وإن اتفقا على أن يركب ثلاثة أيام ويمشي ثلاثة أيام أو ما زاد ونقص جاز كذلك‏.‏

فإن اختلفا لم يجبر الممتنع منهما ‏;‏ لأنّ فيه ضرراً على كلّ واحد منهما، الماشي لدوام المشي عليه، على الدابة لدوام الرّكوب عليها ‏;‏ ولأنّه إذا ركب بعد شدة تعبه كان أثقل على الدابة‏.‏

وإن اكترى اثنان جملاً يركبانه عقبةً وعقبةً جاز ويكون كراؤهما طول الطريق والاستيفاء بينهما على ما يتفقان عليه، وإن تشاحا قسم بينهما لكلّ واحد منهما فراسخ معلومة أو لأحدهما الليل وللآخر النهار، وإن كان بذلك عرف رجع إليه، وإن اختلفا في البادئ منهما أقرع بينهما‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ ويحتمل أن لا يصح كراؤهما إلا أن يتفقا على ركوب معلوم لكلّ واحد منهما، لأنّه عقد على مجهول بالنّسبة إلى كلّ واحد منهما فلم يصح كما لو اشتريا عبدين على أنّ لكلّ واحد منهما عبداً معيناً منهما‏.‏

ومقابل الأصحّ لدى الشافعية أوجه‏:‏ أصحّها المنع، أي منع كراء العقب بصورتيه ‏;‏ لأنّها إجارة أزمان منقطعة‏.‏

والثاني‏:‏ يصحّ كراء العقب في الصّورة التي تؤجر الدابة فيها لرجلين ‏;‏ لاتّصال زمن الإجارة فيها دون الصّورة الأخرى وهي التي يتعاقب في ركوب الدابة المؤجّر والمستأجر‏.‏ والثالث‏:‏ تصحّ في الصّورتين إن كانت في الذّمة‏.‏

قال الإمام المزنيّ‏:‏ لا يجوز اكتراء العقبة إلا مضموناً، لأنّه يتأخر حقّ أحدهما عن العقد فلم يجز كما لو أكراه ظهراً في مدة تتأخر عن العقد‏.‏

ولا يصحّ في هذا الوجه إن كانت معينةً‏.‏

وهذا التفصيل الذي سبق إنّما هو عند الشافعية والحنابلة‏.‏

وجاء في نصوص الحنفية ما يفيد جواز كراء العقب، ففي باب الحجّ عند الكلام عن الراحلة ما نصه‏:‏ وإن أمكنه أن يكتري عقبةً أي ما يتعاقب عليه في الرّكوب فرسخاً بفرسخ أو منزلاً بمنزل فلا حج عليه ‏;‏ لعدم الراحلة إذ ذاك في جميع السفر لأنّ المفروض هو الحجّ راكباً لا ماشياً والراكب عقبةً لا يركب في كلّ الطريق بل يركب في البعض ويمشي في البعض الآخر‏.‏

وهذا يدلّ على أنّ كراء العقب في أصله جائز عندهم ولا سيما الصّورة التي يكتري فيها الاثنان راحلةً يتعاقبان عليها يركب أحدهما مرحلةً والآخر مرحلةً أخرى لنصهم على هذه الصّورة‏.‏

ونص المالكية على أنّه يجوز عقبة الأجير، قالوا في شرح هذه العبارة التي وردت في مختصر خليل‏:‏ أي يجوز للمكري اشتراط ركوب الأجير الميل السادس على الدابة مع المكتري أو بدله ويمشيه المكتري لأنّه أمر معروف‏.‏

ويجوز للمستأجر أن يشترط على الجمال أنّه بعد كلّ خمسة أميال يركب خدام المستأجر الميل السادس أو بما جرى عليه العرف أو بما يتفقان عليه من مسافة قليلة أو كثيرة مما يدلّ على أنّ كراء العقب في الأصل جائز عندهم‏.‏

كَرامة

التعريف

1 - الكرامة لغةً‏:‏ مصدر كرم، يقال‏:‏ كرم الرجل كرامةً‏:‏ عز‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ تطلق على عدة معان‏:‏ فتطلق أولاً‏:‏ بمعنى‏:‏ ظهور أمر خارق للعادة على يد شخص ظاهر الصلاح غير مقارن لدعوى النّبوة والرّسالة‏.‏

وتطلق ثانياً‏:‏ بمعنى‏:‏ الإعزاز والتفضيل والتشريف، وتطلق ثالثاً‏:‏ بمعنى‏:‏ إكرام الضيف‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المعجزة‏:‏

2 - المعجزة في اللّغة‏:‏ هي ما يعجز الخصم عند التحدّي‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ هي أمر خارق للعادة مقرون بدعوى النّبوة قصد به إظهار صدق من ادعى النّبوة مع عجز المنكرين عن الإتيان بمثله‏.‏

وعلى هذا فالمعجزة أخصّ من الكرامة‏.‏

ب - الإرهاص‏:‏

3 - الإرهاص‏:‏ ما يظهر من الخوارق قبل ظهور النبيّ‏.‏

والكرامة أعمّ منه‏.‏

ج - الاستدراج‏:‏

4 - الاستدراج‏:‏ ما يظهر من خارق للعادة على يد كافر أو فاسق‏.‏

والصّلة بين الاستدراج والكرامة الضّدية من حيث المقصود‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالكرامة

الكرامة بمعنى التشريف والإعزاز

5 - الكرامة بمعنى التشريف والإعزاز، منزلة جعلها الله لبني آدم وفضلهم بها على كثير من خلقه، قال عز من قائل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً‏}‏، قال ابن كثير في تفسير الآية‏:‏ أي‏:‏ لقد شرفنا ذرّية آدم على جميع المخلوقات، بالعقل، والعلم، والنّطق، وتسخير ما في الكون لهم، وفضلناهم على من خلقنا من سائر الحيوانات، وأصناف المخلوقات من الجنّ، والبهائم والوحش والطير، وقد حافظ الإسلام على هذه المنزلة لبني آدم جعله مبدأ الحكم، وأساس المعاملة، وأحاطه بسياج من التشريعات، فلا يحلّ لأحد إهدار كرامة أحد بالاعتداء عليها‏:‏ بالقتل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً‏}‏ أو بهتك عرضه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً‏}‏، أو بالسّخرية منه والاستهزاء به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ‏}‏، ونهى عن المثلة في حياته، وبعد مماته، ولو كان من الأعداء أثناء الحرب، وبعد انتهائها، وفي الحديث‏:‏ «لا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا»‏.‏

‏(‏ر‏:‏ جهاد ف / 31‏)‏‏.‏

إكرام الضيف

6 - رغب الإسلام في كرامة الضيف وعدها من أمارات صدق الإيمان، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»‏.‏

كرامة العلماء وكبار السّنّ، وحملة القرآن وأهل الفضل

7 - حث الإسلام على توقير العلماء وكبار السّنّ وحملة القرآن، وأهل الفضل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏، وفي الحديث‏:‏ «إنّ من إجلال الله تعالى‏:‏ إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السّلطان المقسط»، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما أكرم شابّ شيخاً لسنّه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنّه»‏.‏

الكرامة بمعنى ظهور أمر خارق للعادة على يد غير نبيّ

8 - ذهب جمهور علماء أهل السّنّة إلى جواز ظهور أمر خارق للعادة على يد مؤمن ظاهر الصلاح إكرامًا من الله له، وإلى وقوعها فعلاً، ويسمى وليّاً‏.‏

والوليّ في هذا المقام‏:‏ هو العارف بالله تعالى وبصفاته حسب الإمكان، والمواظب على الطاعة المجتنب للمعاصي، بمعنى أنّه لا يرتكب معصيةً بدون توبة، وليس المراد أنّه لا يقع منه معصية بالكلّية، لأنّه لا عصمة إلا للأنبياء ‏(‏ر‏:‏ ولاية‏)‏‏.‏

واستدلّوا على جوازها بأنّه لا يلزم على فرض وقوعها محالّ، وكلّ ما كان كذلك فهو جائز‏.‏ واستدلّوا على وقوعها بما جاء في القرآن الكريم في قصة مريم قال عز من قائل‏:‏ ‏{‏وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏، قال البيضاويّ في تفسير الآية‏:‏ هذا دليل جواز الكرامة للأولياء، وفي حاشية الشيخ زاده على تفسير البيضاويّ‏:‏ لأنّ حصول الرّزق عندها على الوجه المذكور لا شك أنّه أمر خارق للعادة ظهر على يد من لا يدعي النّبوة، وليس معجزةً لنبيّ، لأنّ النّبي الموجود في ذلك الزمان هو زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولو كان ذلك معجزةً له لكان عالماً بحاله، ولم يشتبه أمره عليه ولم يقل لمريم‏:‏ ‏{‏أَنَّى لَكِ هَـذَا‏}‏ وأيضاً قوله تعالى بعد هذه الآية‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء‏}‏، مشعر بأنّه لما سألها عن أمر تلك الأشياء - قيل‏:‏ أنّه كان يجد عندها فاكهة الشّتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشّتاء - لما سألها عن تلك الأشياء غير العادية، وذكرت له‏:‏ أنّ ذلك من عند الله، هنالك طمع في انخراق العادة بحصول الولد من المرأة العاقر الشيخة، بناء على أنّه كان يائساً من الولد بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته وعقمها، فلو لم يعتقد ما رآه في حقّ مريم من الخوارق وأنّ ذلك العلم لم يحصل له إلا بإخبار مريم - لو لم يعتقد ذلك كله لما كانت رؤية تلك الخوارق في مريم سبباً لطمعه بولادة العاقر، والشيخ الكبير - وإذا ثبت ذلك‏:‏ ثبت أنّ تلك الخوارق ما كانت معجزةً لزكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ولا لنبيّ غيره، لعدم وجوده، فتعين أنّها كرامة لمريم فثبت المطلوب‏.‏

كما استدلّوا على وقوعها بقصة أهل الكهف التي وردت في سورة الكهف، فإنّهم كانوا فتيةً سبعةً من أشراف الرّوم خافوا على إيمانهم من ملكهم فخرجوا من المدينة، ودخلوا غاراً فلبثوا فيه بلا طعام ولا شراب ثلثمائة وتسع سنين بلا آفة، ولا شك أنّ هذا شيء خارق للعادة ظهر على يد من لم يدع النّبوة، ولا الرّسالة‏.‏

وكذلك بقصة الذي كان عنده علم من الكتاب في زمن سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام‏:‏ فقد أتى بعرش بلقيس قبل أن يرتد طرف سليمان إليه مع بعد المسافة بين اليمن والشام فرأى سليمان العرش مستقرّاً عنده بلمحة طرف العين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي‏}‏‏.‏

وكذلك بما وقع للصحابة من كرامات في حياتهم وبعد موتهم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ وجّه عمر جيشاً، ورأس عليهم رجلاً يدعى‏:‏ سارية، فبينا عمر رضي الله عنه يخطب جعل ينادي‏:‏ يا سارية‏:‏ الجبل ثلاث مرات، ثم قدم رسول الجيش فسأله عمر، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هزمنا فبينا نحن كذلك إذ سمعنا صوتاً ينادي‏:‏ يا سارية إلى الجبل ثلاث مرات فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله تعالى، وكانت المسافة بين المدينة حيث كان يخطب عمر وبين مكان الجيش مسيرة شهر‏.‏

وأخرج البخاريّ عن أنس رضي الله عنه‏:‏ «أنّ رجلين خرجا من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة وإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا فتفرق النّور معهما»، وفي رواية‏:‏ «أنّ الرجلين هما عباد بن بشر وأسيد بن حضير»‏.‏

ووقعت للصحابة كرامات بعد موتهم، روى أبو نعيم في الحلية‏:‏ «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حنظلة رضي الله عنه‏:‏ وقد استشهد في أحد‏:‏ إنّ صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا أهله ما شأنه‏؟‏ فسئلت صاحبته، فقالت‏:‏ إنّه خرج لما سمع الهائعة وهو جنب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لذلك غسلته الملائكة»‏.‏

ولا تزال تقع الكرامات لصلحاء المؤمنين، لأنّ الله جلت قدرته وعد أن ينصرهم ويعينهم، ويؤيّدهم، جاء في الحديث القدسيّ‏:‏ «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنّوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذ بي لأعيذنّه»، وهذا كناية عن نصرة الله للعبد الصالح وتأييده، وإعانته، حتى كانه سبحانه‏:‏ ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، ولذا جاء في رواية‏:‏ «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي»، ومن كانت هذه صلته بالله فلا يستبعد أن يكرمه بظهور ما لا يطيقه غيره على يديه تكريماً له‏.‏

وأنكر أبو إسحاق الإسفرايينيّ وأبو عبد الله الحليميّ حصول ما يخرق العادة على يد غير نبيّ، وقالوا‏:‏ إنّ الخوارق دلالات صدق الأنبياء، ودليل النّبوة لا يوجد عند غير النبيّ، ولأنّها لو ظهرت بأيدي الأولياء لكثرت بكثرتهم، ولخرجت عن كونها خارقةً للعادة، والفرض أنّها كذلك‏.‏

قول من ادعى ما لا يمكن عادةً

9 - إذا ادعى أحد ما لا يمكن عادةً، ويمكن بالكرامة فلا يقبل شرعاً وهو لغو، كأن ادعى أنّه رهن داره بالشام وأقبضه إياها، وهما بمكة لم يقبل قوله، قال القاضي أبو الطيّب‏:‏ وهذا يدلّ على أنّه لا يحكم بما يمكن من كرامات الأولياء، وكذا إن تزوج بامرأة في المغرب وهو بالمشرق وولدت لستة أشهر لا يلحقه، لأنّ هذه الأمور لا يعول عليها بالشرع، وإن خص الشارع شخصاً بحكم يبقى الحكم خاصّاً به، ولا يتعداه إلى غيره بالقياس، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه»، وهذه مكرمة خاصة بخزيمة بعد شهادته بشهادتين، فلا يقاس عليه غيره لأنّه كرامة مختصة به، ولا يقاس عليه غيره

كَراهة

التعريف

1 - الكراهة في اللّغة مصدر كره، يقال‏:‏ كره الشيء كرهاً وكراهةً وكراهيةً فلا أحبه، فهو كريه ومكروه‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ خطاب الشارع المقتضي الكف عن الفعل اقتضاءً غير جازم‏.‏

أقسام الكراهة

2 - قال الزركشيّ‏:‏ قد تكون الكراهة شرعيةً، وقد تكون إرشاديةً أي لمصلحة دنيوية، ومنه «كراهة النبيّ صلى الله عليه وسلم أكل التمر لصهيب وهو أرمد»، ومنه كراهة الماء المشمس على رأي‏.‏

وتنقسم الكراهة إلى كراهة تحريمية، وكراهة تنزيهية‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ قد يطلق المكروه على الحرام، كقول القدوريّ في مختصره‏:‏ ومن صلى الظّهر في منزله يوم الجمعة قبل صلاة الإمام ولا عذر له كره له ذلك، ويطلق على المكروه تحريماً، وهو ما كان إلى الحرام أقرب ويسمّيه محمد حراماً ظنّيّاً‏.‏

ويطلق على المكروه تنزيهاً وهو ما كان تركه أولى من فعله، ويرادف خلاف الأولى، وفي البحر من مكروهات الصلاة في هذا الباب نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما كره تحريماً، وهو المحمل عند إطلاقهم الكراهة، وذكر في فتح القدير‏:‏ أنّه في رتبة الواجب لا يثبت إلا بما يثبت به الواجب يعني بالظنّيّ الثّبوت‏.‏

ثانيهما‏:‏ المكروه تنزيهاً، ومرجعه إلى ما تركه أولى، وكثيراً ما يطلقون ‏"‏ الكراهة ‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏ فحينئذ إذا ذكروا مكروهاً فلا بد من النظر في دليله، فإن كان نهيا ظنّيّاً يحكم بكراهة التحريم، إلا لصارف للنهي عن التحريم إلى النّدب، فإن لم يكن الدليل نهيا، بل كان للترك غير الجازم فهي تنزيهية‏.‏

قال الزركشيّ‏:‏ ويطلق ‏"‏ المكروه ‏"‏ على أربعة أمور‏.‏

أحدها‏:‏ الحرام، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً‏}‏ أي محرماً‏.‏ ووقع ذلك في عبارة الشافعيّ ومالك، ومنه قول الشافعيّ في باب الآنية‏:‏ وأكره آنية العاج، وفي باب السلم‏:‏ وأكره اشتراط الأعجف والمشويّ والمطبوخ ‏;‏ لأنّ الأعجف معيب، وشرط المعيب مفسد، قال الصيدلانيّ‏:‏ وهو غالب في عبارة المتقدّمين كراهة أن يتناولهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ‏}‏ فكرهوا إطلاق لفظ التحريم‏.‏

الثاني‏:‏ ما نهي عنه نهي تنزيه وهو المقصود هنا‏.‏

الثالث‏:‏ ترك الأولى، كصلاة الضّحى لكثرة الفضل في فعلها، حكى الإمام في النّهاية‏:‏ أنّ ترك غسل الجمعة مكروه مع أنّه لا نهي فيه، قال‏:‏ وهذا عندي جار في كلّ مسنون صح الأمر به مقصوداً‏.‏ قلت‏:‏ ويؤيّده نص الشافعيّ في الأمّ على أنّ ترك غسل الإحرام مكروه، وفرق معظم الفقهاء بينه وبين الذي قبله‏:‏ أنّ ما ورد فيه نهي مقصود يقال فيه‏:‏ مكروه، وما لا، يقال فيه خلاف الأولى ولا يقال‏:‏ مكروه‏.‏

الرابع‏:‏ ما وقعت الشّبهة في تحريمه كلحم السبع ويسير النّبيذ، هكذا عدّه الغزاليّ في المستصفى من أقسام الكراهة، وبه صرح أصحابنا في الفروع في أكثر المسائل الاجتهادية المختلف في جوازها، لكنّ الغزالي استشكله بأنّ من أداه اجتهاده إلى تحريمه فهو عليه حرام، ومن أداه اجتهاده إلى حلّه فلا معنى للكراهة في حقّه، إلا إذا كان في شبهة الخصم حزازة في نفسه، ووقع في قلبه، فلا يصلح إطلاق لفظ الكراهة ‏;‏ لما فيه من خوف التحريم، وإن كان غالب الظنّ الحل، ويتجه هذا على مذهب من يقول‏:‏ المصيب واحد، وأما على قول من يقول‏:‏ كلّ مجتهد مصيب فالحلّ عنده مقطوع به إذا غلب على ظنّه‏.‏

3 - وهل إطلاق الكراهة على هذه الأمور من المشترك أو هو حقيقة في التنزيه مجاز في غيره، وهل المكروه من التكليف أم لا وهل المكروه من القبيح أم لا يوصف بقبح ولا حسن، وهل المكروه يدخل تحت الأمر المطلق أم لا، وهل هو منهيّ عنه أم لا وهل ترك المندوب يعتبر من المكروه تنزيهاً أم لا‏؟‏‏.‏

وتفصيل ذلك كلّه ينظر في الملحق الأصوليّ‏.‏

خلاف الأولى

4 - قال الزركشيّ‏:‏ هذا النوع أهمله الأصوليّون وإنّما ذكره الفقهاء وهو واسطة بين الكراهة والإباحة، واختلفوا في أشياء كثيرة هل هي مكروهة، أو خلاف الأولى كالنّفض والتنشيف في الوضوء وغيرهما‏؟‏

قال إمام الحرمين‏.‏‏.‏‏.‏ التعرّض للفصل بينهما مما أحدثه المتآخرون، وفرقوا بينهما بأنّ ما ورد فيه نهي مقصود يقال فيه‏:‏ مكروه، وما لا فهو خلاف الأولى ولا يقال‏:‏ مكروه، والمراد بالنهي المقصود أن يكون مصرحاً به كقوله‏:‏ لا تفعلوا كذا، أو نهيتكم عن كذا، بخلاف ما إذا أمر بمستحبّ فإنّ تركه لا يكون مكروهاً، وإن كان الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه ‏;‏ لأنّا استفدناه باللازم وليس بمقصود، وقال في موضع آخر‏:‏ إنّما يقال‏:‏ ترك الأولى إذا كان منضبطاً كالضّحى وقيام الليل، وما لا تحديد له ولا ضابط من المندوبات لا يسمى تركه مكروهاً، وإلا لكان الإنسان في كلّ وقت ملابساً للمكروهات الكثيرة من حيث إنّه لم يقم فيصلّي ركعتين، أو يعود مريضاً ونحوه‏.‏

قال الزركشيّ بعد نقل هذه الأقوال‏:‏ والتحقيق‏:‏ أنّ خلاف الأولى قسم من المكروه، ودرجات المكروه تتفاوت كما في السّنّة، ولا ينبغي أن يعد قسماً آخر وإلا لكانت الأحكام ستةً وهو خلاف المعروف أو كان خلاف الأولى خارجاً عن الشريعة وليس كذلك، وهذا رأي بعض الحنفية حيث قال‏:‏ إنّ مرجع كراهة التنزيه خلاف الأولى‏.‏

وأشار بعضهم إلى أنّه قد يفرق بينهما بأنّ خلاف الأولى ما ليس فيه صيغة نهي كترك صلاة الضّحى، بخلاف المكروه تنزيهاً، قال في البحر‏:‏ ولا يلزم من ترك المستحبّ ثبوت الكراهة ‏;‏ إذ لا بد لها من دليل خاصّ، وقال ابن عابدين عقب هذا الكلام‏:‏ أقول وهذا هو الظاهر ‏;‏ إذ لا شبهة أنّ النّوافل من الطاعات كالصلاة والصوم ونحوهما فعلها أولى من تركها بلا عارض، ولا يقال‏:‏ إنّ تركها مكروه تنزيهاً‏.‏

كِرْدار

التعريف

1 - الكِرْدار - ويسمى بخوارزم حق القرار - فارسيّ يطلق على ما يبنى أو يغرس في الأرض المحتكرة للوقف، والأراضي التي حازها الإمام لبيت المال ويدفعها مزارعةً إلى الناس بالنّصف فيصير لهم فيها بناء وغرس أو كبس بالتّراب‏.‏

الحكم الإجماليّ‏:‏

2 - يجوز لمستأجري الأراضي المحتكرة للوقف ونحوها بيع ما أحدثوه فيها من بناء، أو غرس، أو كبس بالتّراب إذا كان الكِرْدار معلوماً ‏;‏ لأنّ ما أحدثه فيها ملكه، وله في الأرض حقّ القرار فيجوز له بيعه‏.‏

وأما الشّفعة في الكردار فينظر تفصيله في مصطلح ‏(‏كدك ف / 11‏)‏‏.‏

كُرّ

انظر‏:‏ مقادير‏.‏

َكُرّاث

التعريف

1 - الكُرّاث لغةً بفتح الكاف وضمّها وتشديد الراء‏:‏ بقل معروف خبيث الرائحة كريه العرق‏.‏

ويقال‏:‏ الكَرَاث بفتح الكاف وتخفيف الراء، وهو ضرب من النبات واحدته كراثة وبه سمّي الرجل كراثةً‏.‏

قال أبو حنيفة الدينوريّ‏:‏ الكَرَاث شجرة جبلية لها خضرة ناعمة ليّنة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - البقل‏:‏

2 - وهو كلّ ما يُنبت الربيع، وكلّ نبات اخضرت به الأرض، وكلّ ما ينبت أصله وفرعه في الشّتاء فهو بقل‏.‏

فهو أعمّ من الكراث‏.‏

ب - الثّوم‏:‏

3 - بقلة معروفة قوية الرائحة، وهي ببلد العرب كثيرة، منها برّيّ ومنها ريفيّ، واحدته ثومة‏.‏

والكراث والثّوم نوعان مختلفان من البقل‏.‏

ج - البصل‏:‏

4 - نبات معروف ينمو تحت الأرض وله جذور دقيقة ويؤكل نيئاً أو مطبوخاً، واحدته بصلة‏.‏

وهو غير الكراث وهما نوعان مختلفان‏.‏

د - الفجل‏:‏

5 - بقلة حولية وله أرومة خبيثة الجشاء، واحدته فُجْلة - بضمّ الفاء وسكون الجيم - وفُجُلة - بضمّ الفاء والجيم -‏.‏

وهو غير الكراث، وهما نوعان مختلفان من البقول‏.‏

ما يتعلق بالكراث من أحكام

حكم أكله وأثره في حضور الجماعة

6- اتفق الفقهاء على أنّ من الأعذار التي تبيح التخلّف عن الجماعة‏:‏ أكل كلّ ذي رائحة كريهة كبصل وثوم وكراث وفجل إذا تعذر زوال رائحته لحديث جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أكل من هذه البقلة الثّوم وقال مرةً‏:‏ من أكل البصل والثّوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإنّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم»‏.‏

والتفصيل في مصطلح ‏(‏صلاة الجماعة ف / 33‏)‏‏.‏

7- وهذا الحكم فيمن أراد الذهاب إلى المسجد، أما من لم يرد الذهاب للمسجد فصرح الفقهاء أيضاً بكراهية أكله إلا لمن قدر على إزالة ريحها‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ ويكره أكل البصل والثّوم والكراث والفجل وكلّ ذي رائحة كريهة من أجل رائحته، سواء أراد دخول المسجد أم لم يرد، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس»‏.‏

وفي حاشية الدّسوقيّ‏:‏ وأما أكله خارج المسجد في غير الجمعة فمكروه إن لم يرد الذهاب للمسجد، وإن أراد الذهاب إلى المسجد فالمعتمد أنّه حرام‏.‏

وقال القليوبيّ‏:‏ وأكلها مكروه في حقّه صلى الله عليه وسلم على الراجح وكذا في حقّنا ولو في غير المسجد‏.‏ نعم‏.‏ قال ابن حجر وشيخ الإسلام‏:‏ لا يكره أكلها لمن قدر على إزالة ريحها ولا لمن لم يرد الاجتماع مع الناس، ويحرم أكلها بقصد إسقاط واجب كالجمعة ويجب السعي في إزالة ريحها‏.‏

وحكى النّوويّ إجماع من يعتدّ به على أنّ هذه البقول حلال‏.‏

أكل الزوجة للكراث

8 - صرح الفقهاء بأنّ من حقّ الزوج على زوجته أن يمنعها من أكل ما له رائحة كريهة كثوم أو بصل أو كراث لأنّه يمنع القبلة وكمال الاستمتاع‏.‏

ففي فتح القدير والفتاوى الهندية‏:‏ وله أن يمنعها من أكل ما يتأذى من رائحته‏.‏

وفي الشرح الصغير‏:‏ يجوز للزوج منعها من أكل كلّ ما له رائحة كريهة ما لم يأكله معها أو يكن فاقد الشمّ وأما هي فليس لها منعه من ذلك ولو لم تأكل‏.‏

وفي مغني المحتاج‏:‏ وله منعها من أكل ما يتأذى من رائحته كبصل أو ثوم‏.‏

وفي كشاف القناع‏:‏ وتمنع الزوجة من أكل ما له رائحة كريهة كبصل أو ثوم وكراث لأنّه يمنع كمال الاستمتاع‏.‏

وهناك قول للحنابلة أنّه ليس للزوج منع الزوجة من ذلك لأنّه لا يمنع الوطء‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏عشرة ف / 14‏)‏‏.‏

السلم في الكراث

9 - اختلف الفقهاء في صحة السلم في البقول وألتي منها الكراث، فذهب الحنفية وهو قول الحنابلة في المذهب إلى عدم صحة ذلك لأنّ البقول من ذوات الأمثال ‏;‏ ولأنّها تختلف ولا يمكن تقديرها بالحزم‏.‏

وذهب المالكية والشافعية وهو رواية للحنابلة إلى صحة ذلك‏.‏

بيع الكراث

10 - اتفق الفقهاء في الجملة على صحة بيع الكراث بعد بدوّ صلاحه لعموم حديث ابن عمر «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثّمار حتى يبدو صلاحها»‏.‏

ولهم في ذلك تفصيلات وخلاف ينظر في مصطلح ‏(‏بيع منهيّ عنه ف / 70 - 87‏)‏‏.‏

كُرْكيّ

انظر‏:‏ أطعمة‏.‏

كُرْه

التعريف

1 - الكره في اللّغة - بضمّ الكاف وفتحها - المشقة، وهو مصدر من كرهت الشيء أكرهه كُرهاً - بالضمّ والفتح - ضدّ أحببته فهو مكروه‏.‏

وذهب كثير من أهل اللّغة إلى أنّ الكَره والكُره لغتان، فبأيّ لغة وقع فهو جائز، إلا الفراء فإنّه زعم أنّ الكره - بالضمّ - ما أكرهت نفسك عليه، والكَره - بالفتح - ما أكرهك غيرك عليه‏.‏

وفي المصباح‏:‏ الكره - بالفتح - المشقة، وبالضمّ‏:‏ القهر، وقيل‏:‏ بالفتح‏:‏ الإكراه، وبالضمّ المشقة‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - البغض‏:‏

2 - البغض في اللّغة‏:‏ نقيض الحبّ، وبَغَض الشيء بغضاً‏:‏ مقته وكرهه، وبَغُض الرجل - بالضمّ - بَغَاضةً، أي صار بغيضًا، وبغّضه الله إلى الناس تبغيضًا فأبغضوه، أي مقتوه‏.‏ وفي المفردات‏:‏ البغض‏:‏ نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه، وهو ضدّ الحبّ‏.‏

وقد فرق أبو هلال العسكريّ بين الكراهة والبغض فقال‏:‏ إنّه قد اتسع بالبغض ما لم يتسع بالكراهة، فقيل‏:‏ أبغض زيداً أي أبغض إكرامه ونفعه، ولا يقال‏:‏ أكرهه بهذا المعنى، ومع هذا فإنّ الكراهة تستعمل فيما لا يستعمل فيه البغض، فيقال‏:‏ أكره هذا الطعام ولا يقال أبغضه، والمراد أنّي أكره أكله‏.‏

ب - الحبّ‏:‏

3 - الحبّ في اللّغة‏:‏ نقيض البغض، والحبّ‏:‏ الوداد والمحبة، وأحبّه فهو محبّ وحَبَّه يُحِبُّه - بالكسر - فهو محبوب، وتحبب إليه‏:‏ تودد‏.‏

والحبّ نقيض الكره‏.‏

أنواع الكُره

4 - جاء في المفردات‏:‏ الكره على ضربين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يعاف من حيث الطبع‏.‏

والثاني‏:‏ ما يُعاف من حيث العقل أو الشرع‏.‏

ولهذا يصحّ أن يقول الإنسان في الشيء الواحد‏:‏ إنّي أريده وأكرهه، بمعنى أنّي أريده من حيث الطبع، وأكرهه من حيث العقل أو الشرع، وأريده من حيث العقل أو الشرع، وأكرهه من حيث الطبع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ‏}‏، أي تكرهونه من حيث الطبع‏.‏

وقد قال القرطبيّ في تفسير هذه الآية‏:‏ كان الجهاد كرهاً لأنّ فيه إخراج المال ومفارقة الأهل والوطن، والتعرّض بالجسد للشّجاج والجراح وذهاب النفس فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنّهم كرهوا فرض الله‏.‏

الحكم التكليفيّ

5 - الكره قد يكون واجباً ككره الكفر وكره المعصية ولذلك كان من فضل الله على المؤمنين أنّه كرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان‏.‏

ويقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان‏:‏ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار»‏.‏

وقد يكون الكره حراماً ككره الإسلام أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أو الصالحين، ويدخل في ذلك كراهة النّعمة عند الغير وحبّ زوالها عن المنعم عليه‏.‏

وقد يكون الكُره مباحاً ككراهة المقضيّ به إن كان معصيةً ‏;‏ لأنّ الإنسان مطالب بالرّضا بالقضاء مطلقاً، أما المقضيّ به فإن كان طاعةً فالواجب الرّضا بالقضاء والمقضيّ به جميعاً، وإن كان المقضيّ به معصيةً فليرض بالقضاء ولا يرضى بالمقضيّ به بل يكرهه‏.‏

يقول القرافيّ‏:‏ اعلم أنّ السخط بالقضاء حرام إجماعاً والرّضا بالقضاء واجب إجماعاً بخلاف المقضيّ به، فعلى هذا إذا ابتلي الإنسان بمرض فتألم من المرض بمقتضى طبعه فهذا ليس عدم رضا بالقضاء بل عدم رضا بالمقضيّ ونحن لم نؤمر بأن تطيب لنا البلايا والرزايا ومؤلمات الحوادث، ولم ترد الشريعة بتكليف أحد بما ليس في طبعه، ولم يؤمر الأرمد باستطابة الرمد المؤلم ولا غيره من المرض، بل ذم الله قوماً لا يتألمون ولا يجدون للبأساء وقعاً فذمهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏}‏، فمن لم يستكن ولم يذل للمؤلمات ويظهر الجزع منها ويسأل ربه إقالة العثرة منها فهو جبار عنيد بعيد عن طرق الخير، فالمقضيّ والمقدور أثر القضاء والقدر، فالواجب هو الرّضا بالقضاء فقط، أما المقضيّ فقد يكون الرّضا به واجباً كالإيمان بالله تعالى والواجبات إذا قدرها الله تعالى للإنسان، وقد يكون مندوباً في المندوبات وحراماً في المحرمات، ومباحاً في المباحات، وأما الرّضا بالقضاء فواجب على الإطلاق، وقد «حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لموت ولده إبراهيم ورمي السيّدة عائشة بما رميت به» إلى غير ذلك ‏;‏ لأنّ هذا كله من المقضيّ، والأنبياء عليهم السلام طباعهم تتألم وتتوجع من المؤلمات وتسرّ بالمسرات، وإذا كان الرّضا بالمقضيّ به غير حاصل في طبائع الأنبياء فغيرهم بطريق الأولى‏.‏

ومن الكره المباح ما ينقص الإنسان من المباحات، يقول الغزاليّ‏:‏ لا حرج على من يكره تخلّف نفسه ونقصانها في المباحات‏.‏

أثر الكره في العقيدة

6 - من كره الإسلام، أو كره الرسول صلى الله عليه وسلم فإنّه يعتبر كافراً ويقتل من ظهر منه ذلك إن لم يتب‏.‏

أما بغض الأنصار والصحابة رضوان الله عليهم فإذا كان كرهه لهم من حيث إعزازهم الدين وبذلهم النفس والمال في نصرة الإسلام ونصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم فمن كرههم من هذه الحيثية فهو كافر، أما من كرههم لذواتهم فهو عاص‏.‏

أثر الكره في الإمامة في الصلاة

7 - ذهب الفقهاء إلى كراهة التصدّي للإمامة إذا كان القوم يكرهونه لما روى أبو أمامة رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم‏:‏ العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون»‏.‏

قال الحنفية‏:‏ إن كان القوم يكرهونه لفساد فيه أو لأنّهم أحقّ بالإمامة منه كره ذلك تحريماً، وإن كان هو الأحق بالإمامة فلا يكره والكراهة عليهم‏.‏

وقال المالكية‏:‏ إن كرهه أقلّ القوم ولو غير ذوي الفضل منهم لتلبّسه بالأمور المزرية الموجبة للزّهد فيه والكراهة له أو لتساهله في ترك السّنن كالوتر والعيدين وترك النّوافل كرهت إمامته، أما إذا كرهه كلّ القوم أو جلّهم أو ذوو الفضل منهم وإن قلّوا فتحرم إمامته لحديث أبي أمامة، ولقول عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ لأن تضرب عنقي أحبّ إلي من ذلك‏.‏ وقال الشافعية‏:‏ يكره تنزيهاً أن يؤم الرجل قوماً أكثرهم له كارهون لأمر مذموم شرعاً كوال ظالم أو متغلّب على إمامة الصلاة ولا يستحقّها أو لا يحترز من النّجاسة، أو يمحو هيئات الصلاة، أو يتعاطى معيشةً مذمومةً، أو يعاشر الفسقة أو نحوهم وإن نصبه لها الإمام الأعظم، لحديث‏:‏ «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم‏.‏‏.‏‏.‏» ومنهم‏:‏ «إمام قوم وهم له كارهون»‏.‏

والأكثر في حكم الكلّ، وإنّما كان الحكم لكره الأكثر لا الأقلّ لأنّهم يختلفون هل يتصف الإمام بما يجعله مكروهاً أم لا، فيعتبر قول الأكثر لأنّه من باب الرّواية، أما إذا كرهه دون الأكثر لا لأمر مذموم فلا تكره له الإمامة‏.‏

ونقل الشّربينيّ الخطيب أنّه يكره أن يولّي الإمام الأعظم على قوم رجلاً يكرهه أكثرهم نص عليه الشافعيّ ولا يكره إن كرهه دون الأكثر بخلاف الإمامة العظمى فإنّها، تكره إذا كرهها البعض‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يكره أن يؤم رجل قوماً أكثرهم له كارهون إذا كانت كراهتهم له بحقّ كخلل في دينه أو فضله للحديث، فإن كرهوه بغير حقّ لم يكره أن يؤمهم، وذلك بأن كان ذا دين وسنّة، قال منصور‏:‏ إنّا سألنا أمر الإمامة فقيل لنا‏:‏ إنّما عنى بهذا الظلمة، فأما من أقام السّنّة فإنّما الإثم على من كرهه‏.‏

وهذا بالنّسبة للأكثر من القوم أما الأقلّ فقد قال الإمام أحمد‏:‏ إذا كرهه واحد أو اثنان أو ثلاثة فلا بأس حتى يكرهه أكثر القوم‏.‏

أثر كره أحد الزوجين للآخر

8 - إذا كره الزوج زوجته لدمامة أو سوء خلق أو سوء عشرة من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز فإنّه يندب له احتمالها وعدم فراقها لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيراً‏}‏‏.‏

أي فعسى أن يكون صبركم في إمساكهنّ مع الكراهة فيه خير كثير لكم في الدّنيا والآخرة ‏;‏ إذ عسى أن يؤول الأمر إلى أن يرزقه الله منها أولاداً صالحين، ومن هذا المعنى ما ورد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يفرك مؤمن مؤمنةً إن كره منها خلقاً رضي منها آخر» أي لا يبغضها بغضاً كلّيّاً يحمله على فراقها، بل يغفر سيّئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما يحبّ‏.‏

أما إذا كره الزوج زوجته لكونها غير عفيفة أو لتفريطها في حقوق الله تعالى الواجبة عليها مثل الصلاة ونحوها ولا يمكنه إجبارها عليها، فلا ينبغي له إمساكها لأنّ فيه نقصاً لدينه ولا يأمن إفسادها لفراشه وإلحاقها به ولداً ليس هو منه، وقد روي «أنّ رجلاً أتى النّبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنّ امرأتي لا تردّ يد لامس فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ طلّقها»‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ ولا بأس بعضلها في هذه الحال والتضييق عليها لتفتدي منه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ‏}‏‏.‏

وإذا كرهت المرأة زوجها لقبح منظر أو سوء عشرة أو كبره أو ضعفه وخشيت ألا تؤدّي حق الله في طاعته جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ‏}‏، وقد ورد‏:‏ «أنّ امرأة ثابت بن قيس جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق، إلا أنّي أخاف الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أفتردين عليه حديقته‏؟‏ فقالت‏:‏ نعم، فردت عليه وأمره ففارقها»، فإن خالعته لغير بغض كره لها ذلك‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏خلع ف / 9‏)‏‏.‏

كَسَاد

انظر‏:‏ نقود‏.‏

كَسْب

التعريف

1 - الكسب في اللّغة‏:‏ مصدر كسب، يقال‏:‏ كسب مالاً أي ربحه واكتسب كذلك، وكسب لأهله واكتسب‏:‏ طلب المعيشة، وكسب الإثم واكتسبه‏:‏ تحمله‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضرر‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحِرفة‏:‏

2 - الحرفة - بالكسر - في اللّغة‏:‏ الطّعمة، والصّناعة يرتزق منها، وكلّ ما اشتغل الإنسان ورضي به يسمى صنعةً وحرفةً ‏;‏ لأنّه يتحرف إليها‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللفظ عن المعنى اللّغويّ، قال الرمليّ‏:‏ الحرفة ما يتحرف به لطلب الرّزق من الصنائع وغيرها‏.‏

والصّلة بين الحرفة والكسب هي أنّ الكسب أعمّ من الحرفة ‏;‏ لأنّ الكسب قد يكون حرفةً وقد لا يكون‏.‏

ب - الرّبح‏:‏

3 - الرّبح في اللّغة‏:‏ المكسب‏.‏

قال الأزهريّ‏:‏ ربح في تجارته‏:‏ إذا أفضل فيها‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللفظ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

والصّلة بين الرّبح والكسب أنّ الرّبح ثمرة الكسب‏.‏

ج - الغنى‏:‏

4 - الغنى بالكسر والقصر في اللّغة‏:‏ اليسار‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ إلا أنّه عند الفقهاء أنواع‏.‏

والصّلة بين الغنى والكسب أنّ الكسب وسيلة من وسائل الغنى‏.‏

الحكم التكليفيّ

5 - الكسب قد يكون فرضاً، وهو الكسب بقدر الكفاية لنفسه وعياله وقضاء ديونه ونفقة من يجب عليه نفقته، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته»، فإن ترك الاكتساب بعد ذلك وسعه، وإن اكتسب ما يدخره لنفسه وعياله فهو في سعة، فقد صح «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان يحبس لأهله قوت سنتهم»‏.‏

وقد يكون الكسب مستحبّاً، وهو كسب ما زاد على أقلّ الكفاية ليواسي به فقيراً أو يصل به قريباً‏.‏

ويباح كسب الحلال لزيادة المال والجاه والترفّه والتنعم والتوسعة على العيال مع سلامة الدّين والعرض والمروءة وبراءة الذّمة ‏;‏ لأنّه لا مفسدة فيه إذن‏.‏

وأما الكسب للتفاخر والتكاثر - وإن كان من حلّ - فهو مكروه عند الحنفية، وصرح الحنابلة بحرمته لما فيه من التعاظم المفضي إلى هلاك صاحبه دنيا وأخرى‏.‏

آداب الكسب

6 - قال أبو الليث السمرقنديّ‏:‏ من أراد أن يكون كسبه طيّباً فعليه أن يحفظ خمسة أشياء‏:‏ أولها‏:‏ أن لا يؤخّر شيئاً من فرائض الله تعالى لأجل الكسب، ولا يدخل النقص فيها‏.‏ والثاني‏:‏ أن لا يؤذي أحداً من خلق الله لأجل الكسب‏.‏

والثالث‏:‏ أن يقصد بكسبه استعفافاً لنفسه ولعياله، ولا يقصد به الجمع والكثرة‏.‏

الرابع‏:‏ أن لا يجهد نفسه في الكسب جدّاً‏.‏

والخامس‏:‏ أن لا يرى رزقه من الكسب، ويرى الرّزق من الله تعالى، والكسب سبباً‏.‏

كما يجب على كلّ مسلم مكتسب تحصيل علم الكسب، وذلك لمعرفة أحكام العقود التي لا تنفكّ المكاسب عنها، وهي البيع والرّبا والسلم والإجارة والشركة والقراض، ومهما حصل علم هذه العقود وقف المكتسب على مفسدات المعاملة فيتقيها‏.‏

المفاضلة بين الكسب وبين التفرّغ للعبادة

7 - اختلف الفقهاء في المفاضلة بين الاشتغال بالكسب والتفرّغ للعبادة بعد تحصيل ما لا بد للمرء منه‏:‏

فذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ الكسب الذي لا يقصد به التكاثر، وإنّما يقصد به التوسّل إلى طاعة الله، من صلة الإخوان والتعفّف عن وجوه الناس، هو أفضل من التفرّغ للعبادة من الصلاة والصوم والحجّ ‏;‏ لأنّ منفعة الاكتساب أعمّ، فإنّ ما اكتسبه الزارع تصل منفعته إلى الجماعة عادةً، والذي يشتغل بالعبادة إنّما ينفع نفسه ‏;‏ لأنّه بفعله يحصّل النّجاة لنفسه والثواب لجسمه، وما كان أعم فهو أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير الناس أنفعهم للناس»، ولهذا كان الاشتغال بطلب العلم أفضل من التفرّغ للعبادة ‏;‏ لأنّ منفعة ذلك أعمّ، ولهذا كانت الإمارة والسلطنة بالعدل أفضل من التخلّي للعبادة كما اختاره الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم ‏;‏ لأنّ ذلك أعمّ نفعاً، وإلى هذا المعنى أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ «العبادة عشرة أجزاء» وقوله عليه السلام‏:‏ «الجهاد عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال»، يعني طلب الحلال للإنفاق على العيال، والدليل عليه أنّه بالكسب يتمكن من أداء أنواع الطاعات من الجهاد والحجّ والصدقة وبرّ الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الأقارب والأجانب، وفي التفرّغ للعبادة لا يتمكن إلا من أداء بعض الأنواع كالصوم والصلاة‏.‏

ويرى الحنفية على الأصحّ أنّ التفرّغ للعبادة أفضل ‏;‏ لأنّ الأنبياء والرّسل عليهم السلام ما اشتغلوا بالكسب في عامة الأوقات، ولا يخفى على أحد أنّ اشتغالهم بالعبادة في عمرهم كان أكثر من اشتغالهم بالكسب، ومعلوم أنّهم كانوا يختارون لأنفسهم أعلى الدرجات، ولا شك أنّ أعلى مناهج الدّين طريق المرسلين عليهم السلام، وكذا الناس في العادة إذا حزبهم أمر يحتاجون إلى دفعه عن أنفسهم فيشتغلون بالعبادة لا بالكسب، والناس إنّما يتقربون إلى العباد دون المكتسبين‏.‏

المفاضلة بين الغنى والفقر

8 - اختلف الفقهاء في المفاضلة بين الغنى والفقر، مع اتّفاقهم على أنّ ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم، فذهب قوم إلى تفضيل الغنى على الفقر ‏;‏ لأنّ الغني مقتدر، والفقير عاجز، والقدرة أفضل من العجز، قال الماورديّ‏:‏ وهذا مذهب من غلب عليه حبّ النّباهة‏.‏

وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر على الغنى ‏;‏ لأنّ الفقير تارك، والغني ملابس، وترك الدّنيا أفضل من ملابستها، قال الماورديّ‏:‏ وهذا مذهب من غلب عليه حبّ السلامة‏.‏

والمذهب عند الحنفية أنّ صفة الفقر أعلى‏.‏

وذهب آخرون إلى تفضيل التوسّط بين الأمرين بأن يخرج عن حدّ الفقر إلى أدنى مراتب الغنى، ليصل إلى فضيلة الأمرين، ويسلم من مذمة الحالين، قال الماورديّ‏:‏ وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال، وأنّ خيار الأمور أوساطها‏.‏

التوفيق بين كسب الرّزق وبين التوكّل

9 - جاء في المبسوط‏:‏ المذهب عند جمهور الفقهاء من أهل السّنّة والجماعة أنّ الكسب بقدر ما لا بد منه فريضة‏.‏

وتقصير الإنسان عن طلب كفايته - كما قال الماورديّ - قد يكون على ثلاثة أوجه‏:‏

فيكون تارةً كسلاً، وتارةً توكّلاً، وتارةً زهداً وتقنّعاً ‏.‏

فإن كان تقصيره لكسل فقد حرم ثروة النّشاط ومرح الاغتباط، فلن يُعْدَمَ أن يكون كَلّاً قصيّاً أو ضائعاً شقيّاً‏.‏

وإن كان تقصيره لتوكّل فذلك عجز قد أعذر به نفسه، وتركُ حزم قد غير اسمه، لأنّ الله تعالى أمر بالتوكّل عند انقطاع الحيل والتسليم إلى القضاء بعد الإعذار، فقد روى سفيان عن أيّوب عن أبي قلابة رضي الله عنه «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرافق بين أصحابه رفقاء، فجاءت رفقة يهرفون برجل يقولون‏:‏ ما رأينا مثل فلان، إن نزلنا فصلاة وإن ركبنا فقراءة، ولا يفطر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من كان يرحل له، ومن كان يعمل له‏؟‏ وذكر أشياء فقالوا‏:‏ نحن، فقال‏:‏ كلّكم خير منه»‏.‏

وجاء في المبسوط‏:‏ قال قوم‏:‏ إنّ الكسب ينفي التوكّل على الله أو ينقص منه، وقد أمرنا بالتوكّل قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ فما يتضمن نفي ما أمر به من التوكّل يكون حراماً، والدليل على أنّه ينفي التوكّل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو أنّكم كنتم توكلون على الله حق توكّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً»‏.‏ وهو قول مردود‏.‏

أنواع الكسب

10 - إنّ حاجة الإنسان للمادة لازمة لا يعرى منها بشر، فإذا عدم المادة التي هي قوام نفسه لم تدم له حياة، ولم تستقم له دنيا، وإذا تعذر شيء منها عليه لحقه من الوهن في نفسه والاختلال في دنياه بقدر ما تعذر من المادة عليه ‏;‏ لأنّ الشيء القائم بغيره يكمل بكماله، ويختلّ باختلاله، ثم لما كانت الموادّ مطلوبةً لحاجة الكافة إليها، أعوزت بغير طلب‏.‏

ثم إنّه جلت قدرته جعل سد حاجة الناس وتوصّلهم إلى منافعهم من وجهين‏:‏ بمادة وكسب‏.‏ فأما المادة فهي حادثة عن اقتناء أصول نامية بذواتها‏.‏

وأما الكسب فيكون بالأفعال الموصّلة إلى المادة، والتصرّف المؤدّي إلى الحاجة، وذلك من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ تقلّب في تجارة، والثاني‏:‏ تصرّف في صناعة، وهذان الوجهان هما فرع لوجهي المادة، فصارت أسباب الموادّ المألوفة وجهات المكاسب المعروفة من أربعة أوجه‏:‏ نماء زراعة، ونتاج حيوان، وربح تجارة، وكسب صناعة‏.‏

المفاضلة بين أنواع المكاسب المختلفة

11 - قال السرخسيّ‏:‏ المكاسب أربعة‏:‏

الإجارة والتّجارة والزّراعة والصّناعة وكلّ ذلك في الإباحة سواء‏.‏

وصرح الحنفية بأنّ أفضل أنواع الكسب الجهاد ‏;‏ لأنّ فيه الجمع بين حصول الكسب وإعزاز الدّين وقهر عدوّ الله‏.‏

ثم اختلف مشايخ الحنفية في المفاضلة بين التّجارة والزّراعة‏:‏ فذهب الأكثرون إلى أنّ الزّراعة أفضل من التّجارة لأنّها أعمّ نفعاً، فبعمل الزّراعة يحصل ما يقيم به المرء صلبه، ويتقوى على الطاعة، وبالتّجارة لا يحصل ذلك ولكن ينمو المال، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير الناس أنفعهم للناس»، والاشتغال بما يكون نفعه أعمّ يكون أفضل ‏;‏ ولأنّ الصدقة في الزّراعة أظهر، فلا بد أن يتناول مما يكتسبه الزّراع الناس والدوابّ والطّيور، وكلّ ذلك صدقة له، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة»‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ التّجارة أفضل من الزّراعة‏.‏

وتأتي الصّناعة بعد الجهاد والزّراعة والتّجارة‏.‏

وقال الماورديّ‏:‏ أصول المكاسب‏:‏ الزّراعة والتّجارة والصنعة، وأيّها أطيب‏؟‏ فيه ثلاثة مذاهب للناس‏:‏ أشبهها مذهب الشافعيّ‏:‏ أنّ التّجارة أطيب، قال الماورديّ‏:‏ والأشبه عندي‏:‏ أنّ الزّراعة أطيب ‏;‏ لأنّها أقرب إلى التوكّل‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أكل أحد طعاماً قطّ خيراً من أن يأكل من عمل يده وإنّ نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده»، فهذا صريح في ترجيح الزّراعة والصنعة ‏;‏ لكونهما من عمل يده، لكنّ الزّراعة أفضلهما لعموم النفع بها للآدميّ وغيره وعموم الحاجة إليها‏.‏

سؤال القادر على الكسب

12 - الأصل أنّ سؤال المال، والمنفعة الدّنيوية ممن لا حق له فيه أي في المسئول منهما حرام ‏;‏ لأنّه لا ينفكّ عن ثلاثة أمور محرمة‏:‏

أحدها‏:‏ إظهار الشكوى‏.‏

والثاني‏:‏ إذلال نفسه، وما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه‏.‏

والثالث‏:‏ إيذاء المسئول غالباً‏.‏

وإنّما يباح السّؤال في حالة الضرورة والحاجة المهمة القريبة من الضرورة‏.‏

وإن كان المحتاج بحيث يقدر على التكسّب فعليه أن يكتسب، ولا يحلّ له أن يسأل لما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «من سأل وهو غنيّ عن المسألة يحشر يوم القيامة وهي خموش في وجهه»‏.‏

وورد أنّ عبد الله بن عديّ بن الخيار قال‏:‏ «أخبرني رجلان أنّهما أتيا النّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه، فرآنا جلدين، فقال‏:‏ إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغنيّ ولا لقويّ مكتسب» معناه لا حق لهما في السّؤال، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لذي مرة سويّ» يعني لا يحلّ السّؤال للقويّ القادر على التكسّب، ولكنّه لو سأل فأعطي حل له أن يتناول، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن شئتما أعطيتكما» فلو كان لا يحلّ التناول لما قال صلى الله عليه وسلم لهما ذلك‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء‏}‏ والقادر على الكسب فقير هذا عند الحنفية‏.‏ ويرى أكثر أهل العلم أنّ الزكاة لا تحلّ لغنيّ ولا لقويّ يقدر على الكسب‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ واتفقوا على النهي عن السّؤال بلا ضرورة، وفي القادر على الكسب وجهان‏:‏ أصحّهما أنّه حرام، والثاني يحلّ بشرط أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السّؤال، ولا يؤذي المسئول، وإلا حرم اتّفاقاً‏.‏

وإذا كان المحتاج عاجزاً عن الكسب، ولكنّه قادر على أن يخرج فيطوف على الأبواب ويسأل، فإنّه يفترض عليه ذلك، فإذا لم يفعل ذلك حتى هلك كان إثماً عند أهل الفقه ‏;‏ لأنّه ألقى بنفسه إلى التهلكة، فإنّ السّؤال يوصله إلى ما يقوّم به نفسه في هذه الحالة كالكسب، ولا ذل في هذه الحالة، فقد أخبر الله تعالى عن موسى عليه السلام وصاحبه أنّهما أتيا أهل قرية استطعما أهلها‏.‏

وقال بعض المتقشّفة‏:‏ السّؤال مباح له بطريق الرّخصة، فإن تركه حتى مات لم يكن إثماً‏;‏ لأنّه متمسّك بالعزيمة‏.‏

ومن اشتد جوعه حتى عجز عن طلب القوت، ففرض على كلّ من علم به أن يطعمه، أو يدل عليه من يطعمه ‏;‏ صوناً له عن الهلاك، فإن امتنعوا عن ذلك حتى مات اشتركوا في الإثم، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما أمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به» وإن أطعمه واحد سقط الإثم عن الباقين‏.‏

نفقة القريب العاجز عن الكسب

13 - اختلف الفقهاء في وجوب النفقة للفقير القادر على الكسب على من تجب عليه نفقته‏.‏ فذهب الجمهور إلى أنّ النفقة لا تجب للفقير إلا إذا كان عاجزاً عن الكسب حقيقةً أو حكماً‏.‏ وخالف الحنفية في الأبوين وقالوا‏:‏ تجب النفقة لهما إذا كانا فقيرين وإن قدرا على الكسب‏;‏ لأنّهما يتضرران بالكسب، والولد مأمور بدفع الضرر عنهما‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ إن قدر القريب الفقير على الكسب فأقوال، أظهرها كما قال النّوويّ‏:‏ تجب لأصل دون فرع‏.‏

والتفصيل في مصطلح ‏(‏نفقة‏)‏‏.‏

إجبار المفلّس على التكسّب

14 - ذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عند الحنابلة إلى أنّه ليس على المفلّس بعد القسمة أن يكتسب أو يؤجّر نفسه لوفاء ما بقي عليه من الدين ولو كان قادراً عليه، لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ‏}‏، أمر بإنظاره ولم يأمر باكتسابه، وروى أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه «أنّ رجلاً أصيب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه‏:‏ خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك»‏.‏

ولأنّ هذا تكسّب للمال فلم يجبره عليه كقبول الهبة والصدقة، وكما لا تجبر المرأة على التزويج لتأخذ المهر‏.‏

وأضاف الشافعية‏:‏ أنّه إن وجب الدين بسبب عصى به - كإتلاف مال الغير عمداً - وجب عليه الاكتساب، وأمر به، ولو بإيجار نفسه، لأنّ التوبة من ذلك واجبة، وهي متوقّفة في حقوق الآدميّين على الردّ‏.‏

ويرى الحنابلة في المذهب عندهم أنّه يجبر على الكسب، وهو قول عمر بن عبد العزيز وسوار العنبريّ وإسحاق، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم «باع سرّقاً في دينه، وكان سُرّق رجلاً دخل المدينة، وذكر أنّ وراءه مالاً، فداينه الناس، فركبته ديون ولم يكن وراءه مال، فسماه سرّقاً، وباعه بأربعة أبعرة»، والحرّ لا يباع، ثبت أنّه باع منافعه ولأنّ المنافع تجري مجرى الأعيان في صحة العقد عليها وتحريم أخذ الزكاة وثبوت الغنى بها، فكذلك في وفاء الدين منها، ولأنّ الإجارة عقد معاوضة فجاز إجباره عليها كبيع ماله في وفاء الدين منها‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ لا يجبر على الكسب إلا من في كسبه فضل عن نفقته ونفقة من يمونه‏.‏ وذهب اللخميّ من المالكية إلى أن يجبر على التكسّب إذا كان صانعاً وشرط عليه التكسّب في عقد الدين‏.‏

تكليف الصغير بالتكسّب

15 - ندب الإسلام إلى الاستغناء والتنزّه عن تكليف الصغير بالكسب، فقد أخرج مالك من حديث أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنّه سمع عثمان بن عفان وهو يخطب ويقول‏:‏ لا تكلّفوا الأمة غير ذات الصنعة الكسب، فإنّكم متى كلفتموها ذلك كسبت بفرجها، ولا تكلّفوا الصغير الكسب، فإنّه إذا لم يجد سرق، وعفّوا إذا أعفكم الله، وعليكم من المطاعم بما طاب منها‏.‏ وقال أبو الوليد الباجيّ ضمن تعليقه على أثر عثمان رضي الله عنه‏:‏ الصغير إذا كلّف الكسب، وأن يأتي بالخراج وهو لا يطيق ذلك، فإنّه ربما اضطره إلى أن يتخلص مما لزمه من الخراج بأن يسرق‏.‏

وقال ابن عبد البرّ في تعليقه على الأثر المذكور‏:‏ هذا كلام صحيح واضح المعنى، موافق للسّنّة، والقول في شرحه تكلّف‏.‏

التكسّب في المسجد

16 - يرى الحنفية والشافعية وبعض المالكية وابن عقيل من الحنابلة كراهة التكسّب بعمل الصّناعات مثل الخياطة في المسجد، ولا يكره من ذلك ما قل، مثل رقع ثوبه أو خصف نعله‏.‏

قال الزركشيّ نقلاً عن النّوويّ‏:‏ فأما من ينسخ فيه شيئاً من العلم، أو اتفق قعوده فيه فخاط ثوباً، ولم يجعله مقعداً للخياطة، فلا بأس به، وقال في الروضة‏:‏ يكره عمل الصنائع منه أي المداومة، أما من دخل لصلاة أو اعتكاف فخاط ثوبه لم يكره‏.‏

واستثنى الحنفية من الكراهة ما إذا كانت الصّناعة لأجل حفظ المسجد لا للتكسّب فقد جاء في الفتاوى الهندية‏:‏ الخياط إذا كان يخيط في المسجد يكره، إلا إذا جلس لدفع الصّبيان وصيانة المسجد، فحينئذ لا بأس به‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّه يحرم تكسّب بصنعة في المسجد ‏;‏ لأنّه لم يبن لذلك غير كتابة ‏;‏ لأنّ الكتابة نوع من تحصيل العلم‏.‏

وقال بعض المالكية‏:‏ إنّما يمنع في المساجد من عمل الصّناعات ما يختصّ بمنفعة آحاد الناس مما يتكسب به، فلا يتخذ المسجد متجراً، فأما إن كانت لما يشمل المسلمين في دينهم مثل المثاقفة ‏"‏ وهي الملاعبة لإظهار المهارة والحذق ‏"‏ وإصلاح آلات الجهاد مما لا مهنة في عمله للمسجد فلا بأس به‏.‏

وأما التكسّب في المسجد بالبيع والشّراء فيرى المالكية والشافعية على الأظهر وبعض الحنابلة كراهته، فقد ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا‏:‏ لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالةً فقولوا‏:‏ لا رد الله عليك»‏.‏

وفي جامع الذخيرة‏:‏ جوز مالك أن يساوم رجلاً ثوباً عليه أو سلعةً تقدمت رؤيتها، وقال الجزوليّ‏:‏ ولا يجوز البيع في المسجد ولا الشّراء، واختلف إذا رأى سلعةً خارج المسجد هل يجوز أن يعقد البيع في المسجد أم لا‏؟‏ قولان‏:‏ من غير سمسار، وأما البيع بالسّمسار فيه فممنوع باتّفاق‏.‏

ويرى الحنفية أنّه يمنع من البيع والشّراء وكلّ عقد لغير المعتكف في المسجد، ويجوز للمعتكف بشرط أن لا يكون للتّجارة، بل يكون ما يحتاجه لنفسه أو عياله بدون إحضار السّلعة‏.‏

وصرح الحنابلة بأنّه يحرم في المسجد البيع والشّراء ولا يصحان‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ أجمع العلماء على أنّ ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه‏.‏

ويرى الشافعية في قول أنّ البيع والشّراء في المسجد لا يكره بل يباح، ونقل الزركشيّ ترخيص بعض أهل العلم فيه‏.‏

الكسب الخبيث ومصيره

17 - طلب الحلال فرض على كلّ مسلم، وقد أمر الله تعالى بالأكل من الطيّبات، فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏، وقال في ذمّ الحرام‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ولا يكسب عبد مالاً من حرام، فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يترك خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار»، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به»‏.‏

والحرام كلّه خبيث، لكنّ بعضه أخبث من بعض، فإنّ المأخوذ بعقد فاسد حرام، ولكنّه ليس في درجة المغصوب على سبيل القهر، بل المغصوب أغلظ ‏;‏ إذ فيه إيذاء الغير وترك طريق الشرع في الاكتساب، وليس في العقود الفاسدة إلا ترك طريق التعبّد فقط، وكذلك المأخوذ ظلماً من فقير أو صالح أو يتيم أخبث وأغلظ من المأخوذ من قويّ أو غنيّ أو فاسق‏.‏

والكسب الخبيث هو أخذ مال الغير لا على وجه إذن الشرع، فيدخل فيه القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق وما لا تطيب نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغيّ وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك‏.‏

والواجب في الكسب الخبيث تفريغ الذّمة والتخلّص منه بردّه إلى أربابه إن علموا، وإلا إلى الفقراء‏.‏

قال النّوويّ نقلاً عن الغزاليّ‏:‏ إذا كان معه مال حرام، وأراد التوبة والبراءة منه، فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميّتاً وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه، ويئس من معرفته، فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة كالقناطر والرّبط والمساجد ومصالح طريق مكة ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه، وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء، وينبغي أن يتولى ذلك القاضي إن كان عفيفا، فإن لم يكن عفيفًا لم يجز التسليم إليه، فإن سلمه إليه صار المسلم ضآمناً، بل ينبغي أن يحكّم رجلاً من أهل البلد ديناً عالماً، فإنّ التحكّم أولى من الانفراد، فإن عجز عن ذلك تولاه بنفسه، فإنّ المقصود هو الصرف إلى هذه الجهة، وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حراماً على الفقير، بل يكون حلالاً طيّباً، وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيراً، لأنّ عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليه، وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته ‏;‏ لأنّه أيضاً فقير‏.‏

قال النّوويّ بعد أن نقل قول الغزاليّ المذكور‏:‏ وهذا الذي قاله الغزاليّ في هذا الفرع ذكره الآخرون من الأصحاب، وهو كما قالوه، ونقله الغزاليّ أيضاً عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وغيره من السلف، وعن أحمد بن حنبل والحارث المحاسبيّ وغيرهما من أهل الورع ‏;‏ لأنّه لا يجوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر، فلم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين‏.‏

ومن ورث مالاً ولم يعلم من أين كسبه مورّثه‏:‏ أمن حلال أم حرام‏؟‏ ولم تكن علامة فهو حلال بإجماع العلماء‏.‏

وصرح الحنفية بأنّه إذا مات الرجل وكسبه خبيث، كأن كان من بيع الباذق أو الظّلم أو أخذ الرّشوة، فالأولى لورثته أن يردّوا المال إلى أربابه، فإن لم يعرفوا أربابه تصدقوا به ‏;‏ لأنّ سبيل الكسب الخبيث التصدّق إذا تعذر الردّ على صاحبه‏.‏

وفي البزازية‏:‏ إن علم المال الحرام بعينه لا يحلّ له ‏(‏للوارث‏)‏ أخذه، وإن لم يعلمه بعينه أخذه حكماً، وأما في الدّيانة فإنّه يتصدق به بنية الخصماء‏.‏

وذهب الشافعية إلى أنّ من ورث مالاً، وعلم أنّ فيه حراماً وشك في قدره، أخرج القدر الحرام بالاجتهاد‏.‏ ويمنع والي الحسبة الناس من الكسب الخبيث، قال الماورديّ‏:‏ ويمنع من التكسّب بالكهانة واللهو، ويؤدّب عليه الآخذ والمعطي‏.‏

وللتفصيل ر‏:‏ ‏(‏حسبة ف / 34‏)‏‏.‏

كَسْر

التعريف

1 - من معاني الكسر في اللّغة‏:‏ قولهم كسر الشيء‏:‏ إذا هشمه وفرق بين أجزائه، والكسر من الحساب جزء غير تامّ من أجزاء الواحد كالنّصف والخمس‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ، قال الجرجانيّ‏:‏ الكسر فصل الجسم الصّلب بدفع دافع قويّ من غير نفوذ جسم فيه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القطع‏:‏

2 - القطع إبانة بعض أجزاء الجرم من بعض فصلاً‏.‏

وفي الاصطلاح فصل الجسم بنفوذ جسم آخر فيه‏.‏

فالكسر أعمّ والقطع أخصّ‏.‏

ب - الجرح‏:‏

3 - الجرح من جرحه جرحاً‏:‏ أثر فيه بالسّلاح‏.‏

فهو أخصّ من الكسر‏.‏

ج - الشجة‏:‏

4 - الشجة‏:‏ الجرح في الوجه، والرأس خاصةً، ولا يكون في غيرهما من الجسم‏.‏

فهي أخصّ من الكسر‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالكسر‏:‏

حكم كسر العظم

5 - كسر عظم محقون الدم بالإسلام أو الذّمة أو العهد ظلماً وعدواناً محظور، كحرمة الاعتداء على نفسه أو ماله إجماعاً‏.‏

ما يجب في كسر عظم الآدميّ

6 - ذهب الفقهاء إلى وجوب القود في كسر السّنّ عمداً، إذا تحققت فيه شروط القصاص، وأمن من الزّيادة على القدر المكسور، أو انقلاع السّنّ، أو اسوداد ما بقي منه، أو احمراره، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ‏}‏‏.‏

فإن لم يؤمن من الزّيادة فلا قود، ويجب فيه الأرش ‏;‏ لأنّ توهّم الزّيادة يمنع القصاص ‏(‏ر‏:‏ أرش، ف / 4 وما بعدها‏)‏‏.‏

واختلفوا فيما عداها من العظام‏:‏ فذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة، إلى أنّه لا قود في كسر العظام ‏;‏ لعدم وثوق المماثلة فيها‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ قصاص‏)‏‏.‏

وقال المالكية‏:‏ يجري فيها القود كسائر جراحات الجسم، إلا ما عظم خطره منها، كعظم الصدر، والصّلب، وعظام العنق والفخذ، أما ما لا خطر في إجراء القصاص فيه ففيه القود، كالزندين، والذّراعين، والعضدين، والساقين، ونحوها‏.‏

دية كسر العظم

7 - ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة‏:‏ إلى أنّه ليس في كسر العظم أرش مقدر شرعاً، وإنّما تجب فيه الحكومة، وهي ما يراه الحاكم أو المحكَّم بشرطه‏.‏

‏(‏ر‏:‏ حكومة عدل ف / 4‏)‏‏.‏

واستثنوا منها السّنّ، ففيه أرش مقدر، وهو خمسة أبعرة للنصِّ ‏(‏ر‏:‏ سنّ ف / 10‏)‏‏.‏ واستثنى الحنابلة أيضاً‏:‏ الترقوتين، والزندين، والضّلع، ففيها أرش مقدر، قالوا‏:‏ وكان مقتضى الدليل وجوب الحكومة في العظام كلّها، وإنّما خالفناه لآثار وردت في هذه الأعظم، وما عداها يبقى على مقتضى الدليل، فيجب في الزندين أربعة أبعرة، وفي كسر الساق بعيران، وفي الساقين أربعة، وفي الفخذ بعيران‏.‏

وقال المالكية‏:‏ إن لم يجب في كسر العظم قصاص، وبرئ وعاد العضو لهيئه فلا شيء فيه، وإن برئ وفيه اعوجاج ففيه الحكومة ‏(‏ر‏:‏ ديات ف / 63 - ف 68، حكومة عدل ف / 4‏)‏‏.‏

كسر آلات اللهو والصّلبان وظروف الخمر

8 - اختلف الفقهاء في وجوب الضمان في كسر آلات اللهو، والصّلبان، وأوعية الخمر‏.‏ فذهب أبو حنيفة إلى أنّه إن كَسَرَ آلة لهوٍ صالحةً لغير اللهو ضمَن قيمتها صالحةً لغير اللهو‏;‏ لأنّها أموال متقومة صالحة للانتفاع بها لغير اللهو، فلم يناف الضمان‏.‏

فإن لم تصلح لغير اللهو لم يضمن شيئاً‏.‏

ويفهم من كلام المالكية أنّ آلات اللهو تضمن قيمتها مكسورةً‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ الأصنام والصّلبان وآلات الملاهي، والأواني المحرم اتّخاذها، غير مضمونة، فلا يجب في إبطالها شيء ‏;‏ لأنّ منفعتها محرَّمة، والمحرَّم لا يقابل بشيء مع وجوب إبطالها على القادر عليه‏.‏

والأصحّ عندهم أنّها لا تكسر الكسر الفاحش ‏;‏ لإمكان إزالة الهيئة المحرمة مع بقاء بعض المالية، بل تفصل لتعود كما قبل التأليف، لزوال اسمها وهيئتها المحرمة بذلك، فلا تكفي إزالة الأوتار مع بقاء الجلد اتّفاقاً ‏;‏ لأنّها مجاورة لها منفصلة‏.‏

والثاني لا يجب تفصيل الجميع، بل بقدر ما يصلح للاستعمال‏.‏

وقالوا إن عجز المنكر عن رعاية هذا الحدّ في الإنكار لمنع صاحب المنكر من يريد إبطاله لقوته، أبطله كيف تيسر ولو بإحراق تعين طريقاً، وإلا فبكسر، فإن أحرقها ولم يتعين غرم قيمتها مكسورةً بالحدّ المشروع، لتموّل رضاضها واحترامه، بخلاف ما لو جاوز الحد المشروع مع إمكانه، فإنّه لا يلزمه سوى التفاوت بين قيمتها مكسورةً بالحدّ المشروع وقيمتها منتهيةً إلى الحدّ الذي أتى به‏.‏

ومثل آلات اللهو في الأحكام‏:‏ أواني الخمر، وظروفها، إن تعذر إراقة الخمر لضيق رءوس الأواني، وخشية لحوق من يمنعه من إراقتها، فيكسر الظرف ولا شيء عليه، وكذا إن كانت إراقته تأخذ من وقته زمناً غير تافه، تتعطل فيه مصالحه إذا شغل بكسرها، هذا للآحاد، أما الولاة، فلهم كسر ظروفها مطلقاً زجراً وتأديباً‏.‏

وقال الحنابلة وأبو يوسف ومحمد من الحنفية‏:‏ لا يجب في كسرها شيء مطلقاً، كالميتة، لحديث‏:‏ «إنّ الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة والخنزير، والأصنام»، وورد‏:‏ «أمرني ربّي عز وجل بمحق المعازف والمزامير» وكذا آنية الذهب والفضة، فلا يضمن إن كسرها ‏;‏ لأنّ اتّخاذها محرم وفي ضمان أواني الخمر روايتان عن أحمد، إحداهما‏:‏ يضمنها، لأنّه مال يمكن الانتفاع به ويحلّ بيعه، فيضمنها، كما لو لم يكن فيها خمر، لأنّ جعل الخمر فيها لا يقتضي سقوط ضمانها، كالبيت الذي جعل مخزناً للخمر، والثاني‏:‏ لا يضمن، لما روي أنّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية - وهي الشفرة - فأتيته بها فأرسل بها فأرهَقْت ثم أعطانيها، وقال‏:‏ اغد عليّ بها ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة، وفيها زقاق خمر قد جلبت من الشام، فأخذ المدية منّي، فشق ما كان من تلك الزّقاق بحضرته وأعطانيها، وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت فلم أترك في أسواقها زقّاً إلا شققته»‏.‏

الكسر في سهام الورثة من التركة

9 - إذا لم تقبل القسمة سهام بعض الورثة الحاصلة من أصل المسألة المستحقة على مستحقّيها إلا بكسر، يصحح الكسر بجعل السّهام قابلةً للقسمة على الورثة بدون كسر، وتصحيح المسألة‏:‏ أن يضرب أصل المسألة إن عالت في أقلّ عدد يمكن معه أن يأخذ كلّ وارث بقدر من السّهام بلا كسر، وحاصل الضرب هو أصل المسألة بعد التصحيح، ويتمّ ذلك وفق قواعد تذكر في مصطلح ‏(‏إرث ف / 72‏)‏‏.‏

كُسوف

انظر‏:‏ صلاة الكسوف‏.‏